لكلّ خصم من اللبنانيين لدى «حزب الله» تهمته الجاهزة حسب الطائفة والمنطقة. فأهل السنّة لهم وصمة الإرهاب، والمسيحيون لهم تهمة العمالة، والتخوين سلاح موجّه لكلّ ما خالف الحزب في السياسة والثقافة والإعلام، وبين يديه أجهزة الدولة يطوّعها كيفما شاء، وإذا لقي مقاومة لهيمنته في بعض المواقع، حاصر قصر العدل ونزل مفوضه السامي ليهدِّد القضاة باقتلاعهم وإذا استعصت عليه مؤسسة قام بحصارها وتعطيلها وشلّ حركتها، كما هو حال القضاء تحديداً.
التهم الجاهزة
في خزانة «حزب الله» حقيبة الاتهامات واضحة: الإرهاب للسنّة، والعمالة للمسيحيين والتخوين لسائر المعارضين من باقي الطوائف.
تتّسم سياسة «حزب الله» تجاه اللبنانيين بميزتين إحداهما أسوأ وأخطر من الأخرى:
– الأولى: هي الاستعلاء العنصري والطائفي والمذهبي، المستمدّ من النفحة الفارسية الكارهة للعرب والمحقِّرة لهم، على غرار النظرة الصهيونية لهم.
– الثانية: الحقد الدفين المتواصل وطلب الثأر الذي لا ينتهي ممن قاوم الحزب وعارض سياساته. فمهما مرّ من السنوات، يبقى طلب الثأر قائماً.
نموذج الحرب الدائمة على فؤاد السنيورة
في استذكار حرب تموز التي اندلعت بسبب قيام «حزب الله» بأسر جنديين إسرائيليين لتحرير الأسير سمير القنطار، الذي قُتل على الأراضي السورية في إطار عدوان الحزب على الشعب السوري، شنّ الوزير الأسبق محمد فنيش هجوماً عنيفاً على الرئيس فؤاد السنيورة مستحضراً أوراقاً ادّعى أنّه دوّنها خلال تلك الحرب.
في مراجعة لأصل هذه الحرب، لا يمكن أن نتجاهل أنّ العنوان الذي قامت لأجله كان تحرير سمير القنطار، لنرى أنّ هذا الذي دفع اللبنانيون لأجله كلّ هاتيك الخسائر البشرية والمادية، لم يكن سوى مقاتل في جيش الولي الفقيه، انتقل إلى سوريا وشارك في العدوان على الشعب السوري وقـُتل في سياق حرب النفوذ الإقليمية، وليس من أجل تحرير الأرض، حتى لو كانت الجولان المحتل.
في أحد أهم مسالك حديث فنيش إصراره على اعتبار الكيان العسكري لحزبه شرعياً وطبيعياً، وأنّ على سائر اللبنانيين التسليم بذلك، بل وإظهار الامتنان للحزب بأنّه يسمح ببقائهم في البلد، وكأنّ بقاءهم في أرضهم منّة من سيد الحزب ومنحة لا تقدَّر بثمن.
قدّم فنيش مقاربة مضلِّلة حين تحدّث عن مجريات التفاوض داخل مجلس الوزراء، فيقول: «كان الناس يموتون على الطرقات وفي بيوتهم وهم (وزراء 14 آذار) غير معنيين سوى باستسلام المقاومة لذبحها».
يقفز فنيش فوق حقيقة أنّ من فتح الحرب وأتى بها إلى لبنان، ثم قال «لو كنتُ أعلم» هو الأمين العام لـ«حزب الله»، وأنّه هو المسؤول الأول عن موت الناس وليس وزراء في حكومة لم يكن لأعضائها أي مشاركة في قرار الحرب، بينما ينصّ الدستور على أنّها هي التي يفترض أن تكون مسؤولة عن قراري السلم والحرب.
يستكثر فنيش على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة تمسّكها بالحدّ الأدنى من دورها وواجباتها في الحكم، ويريد أن تماشي حزبه في القضاء على ما تبقّى من مقوِّمات الدولة، فاصطدمت الرؤيتان للأحداث، مع إصرار «الحكومة (على أنها) لم تكن تعلم ولم تكن لتوافق على ما جرى ويجري»، فكان الحزب يريد تسجيل موافقتها على الحرب، ليأخذ الشرعية في حصد النتائج أيضاً.
في آخر سرديته لرواية حرب تموز يقول محمد فنيش إنّه تواصل مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله «عبر الخط العسكري، هذا الرجل الذي اختزن كلّ حالة الصبر والغضب خلال فترة الحرب لم يحتمل ما أخبرته به فأطلق عنان غضبه. طلب منّي الذهاب إلى مجلس الوزراء والضرب على الطاولة أمام الجميع والقول: «ما تطلبونه دونه بذل المهج وخوض اللجج». وأضاف، قل لهم: «أنتم جماعة صبرنا عليكم طويلاً، ولن نحتمل الجلوس معكم لمدة أطول واخرج من الجلسة».
يكشف هذا المستوى من الخطاب حقيقة نظرة الحزب إلى سواه من اللبنانيين وهي نظرة الاستقواء والاستعلاء والتهديد والإرهاب، وهو خطاب لا يزال يلاحق به الرئيس فؤاد السنيورة، رغم أنّ حكومته حظيت بلقب «حكومة المقاومة الدبلوماسية» على لسان الرئيس نبيه بري، لكنّ مشكلتهم مع الرجل أنّه لم يترك التمسّك بقواعد الدولة ولم يخف منهم ولم يستسلم لإرهابهم، فواصلوا حملاتهم عليه، باتهامه بالمسؤولية عن إخفاء الأحد عشر مليار دولار رغم عجز كلّ أعداء السنيورة عن إثبات ما يدينه، بل إنّه كشف خفّتهم وحقدهم بالتكافل والتضامن مع العونيين.
تصفية مكامن القوة السنّية
لم تكن الحرب على السنيورة شخصية فقط، بل لأنّها كانت جزءاً من عملية تصفية كلّ من يستطيع إدارة مقاومة الحزب وخاصة في السياسة.
ومنذ اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وما بين حرب تموز والحرب المفتوحة على بكركي اليوم، أذاق «حزب الله» اللبنانيين أنواع الاضطهاد، فكان السابع من أيار 2008 وحصار السرايا وتعطيل الحياة السياسية، وكانت واقعة عبرا وضلوع الحزب في إشعال فتنتها لإيقاع الصدام بين الجيش اللبناني وشباب الشيخ أحمد الأسير، وغيرها محطات كثيرة، لم تنتهِ بأحداث خلدة وتداعياتها.
وبعد تصفية ما تبقّى من مكامن القوة السياسية والشعبية لدى أهل السنّة والجماعة، تفرّغ «حزب الله» لتصفية مراكز القوة عند المسيحيين، واستهداف أهمّ قوتين، وهما: الكنيسة المارونية على المستوى الديني، والقوات اللبنانية على المستوى الشعبي والسياسي. وكانت غزوة الطيونة – عين الرمانة، من الضربات المتقدِّمة التي أراد الحزب تدشين صراعه مع المسيحيين من خلالها.
لم يغفر «حزب الله» للبطريرك بشارة الراعي تدخّله لإطفاء فتنة عين الرمانة ولم يتجاوز هزيمته أمام حقيقة أنّ أجلاف المسلحين التابعين للثنائي الشيعي هم الذين هاجموا جيرانهم واعتدوا عليهم واقتحموا شوارعهم، ولولا ثبات الجيش وصرامته لوقعت كارثة لا يمكن احتساب تداعياتها.
فتح الحزب حرباً أخرى على المسيحيين هي تدمير التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، فتشارك مع حركة أمل في تعطيل المسار القضائي وتفرّع عنها ملف نيترات البقاع..
آخر قلاع لبنان
ما لاقاه الرئيس السنيورة، يلاقيه اليوم البطريرك الماروني بشارة الراعي، وما عاناه السنّة بدأ المسيحيون يعانونه من جديد، بعد أن وصل الأمر بـ«حزب الله» إلى حدود إسقاط آخر قلاع المقاومة في وجه سلاحه وطغيانه وهي البطريركية المارونية، التي رغم ثغرات واضحة في أدائها العام، مثل حماية رئيس الجمهورية ميشال عون رغم كلّ خطاياه البائنة، غير أنّه لا يمكن إنكار أنّها الحصن الأخير لمقاومي المشروع الإيراني في لبنان.
الشيخ بارودي: دعوة إلى تعاون المرجعيتين الإسلامية والمسيحية
أمام هذه التطورات، كان لافتاً ما دعا إليه شيخ قرّاء طرابلس فضيلة الشيخ بلال بارودي من دعوة إلى أعلى مرجعيتين إسلامية ومسيحية: دار الفتوى والكنيسة المارونية، أن يضعوا أيديهم في أيدي بعض، وأن يطلقوا نداءً حقيقياً لا مصلحة خاصة فيه، متنزّهين عن الأغراض والمصالح والتهديدات والخوف والجُبن، مترفّعين عن الأمور الآنية والمذهبية الضيقة والخلافية.. صادقين في المحافظة على أبناء طائفتهم ومذهبهم وكنائسهم ومساجدهم وليعلنوا جميعاً إستعادة لبنان المخطوف منذ العام 1982 على يد النظام الصهيوني ثم على يد النظام السوري، والآن هو مخطوف من النظام الإيراني.
أكّد الشيخ بارودي أنّه ما لم يتجرّأ أصحاب الطوائف اللبنانية بأن يعلنوا أنّهم يريدون تحرير لبنان سنظلّ في هذه الأزقة الضيقة، فيلاحق مطران بدعوى جلب المال وذاك شيخ يأتي بصاروخ وهذا عميل وذاك تكفيري..
وتوجّه بارودي إلى مفتي الجمهورية والبطريرك الراعي قائلاً: حدِّدوا ماذا تريدون لأبنائكم في وطنكم، وأيّ لبنان تريدون: لبنان قاسم سليماني أم لبنان الذي يعيش فيه جميع اللبنانيين.. حدِّدوا معالم لبنانكم حتى لا ينشغل الناس عن المواجهة الأساس، كما هم منشغلون الآن بالاستشفاء والغذاء والكهرباء.. وارسموا لهم خريطة طريق الإنقاذ.. وإلاّ فلستم أهلاً أن تبقوا على رؤوس طائفتكم!