منذ زمن والقناعة مقيمة راسخة، لا تتزحزح ولا تتنحنح: لن يفوّت «حزب الله» فرصة واحدة لتأكيد الرأي القائل بأنه يعيش في قوقعته الخاصة. ويسبح في «مياهه» وحده. ويحلّق في فضائه الخاص المسوّر بالإعجاز القطعي البعيد عن أي «أرض» لا تخصّه.
.. لا يتحرك إلاّ ضمن قياسه الخاص للمسافات والأزمان. ولا يتراجع إلا ضمن قياسات خساراته أو ربحه هو، وهو وحده فقط! لا يأبه سوى بـ«أناه» ولا يلحظ ما عداه. ينخرط في السياسة ببذلة العسكر. وفي الإعلام بخطاب التعبئة المستدامة. وفي المدنية بمنطق الميليشيات الخاصة. ولا يريد أن ينتبه الى أن الله مشاع، وأن الطرق الى السماء ليست أسيرة شركة النقل التابعة له! وإنه في البداية والنهاية لا يعيش في قلعة، وأن ثقافة الحصار بارت مع الزمن، وأنّ نظرية الحق المطلق هي وصفة كاملة لنفي التسوية، وأنّ هذا النفي في المحصلة لا يعني سوى شيوع المقابر واندثار العمران وسيادة العدم في كل حال.
مُحاربٌ يشتغل في السياسة ولا يخلع ثوبه. ومحترف يتصرف مثل الهواة. وثقيل بحديده لكنّه يتصرف بخفّة لاعب السيرك. خطابه دائماً قطعي ومستعار من مدوّنة ربانية تقول بأن من لا «يؤمن» بي فهو كافر. لا يعرف مكرمة اسمها التواضع، ولا كيف يتواضع. ثم يفترض أنّه في البداية والنهاية، هو المعيار ونقطة ارتكاز القياس وصولاً الى قول أحد جهابذته مرّة ما معناه «أنّ لاشيء اسمه لبنان من دون المقاومة»!
غرابة أدائه فريدة من نوعها. يغطي الخطأ بخطيئة ولا يعرف سرّ الاعتراف. يكابر وينغرّ ولا يتنازل الى «مستوى» البشر ليقدّم اعتذاراً ولو لمرّة واحدة (مرّة واحدة فقط!!) عن دعسة ناقصة دعسها ومعس بسببها أرواحاً ودمّر عمراناً ونكب اجتماعاً أهلياً أو وطنياً.. مهجوس بالشكل الانتصاري حتى لو كان المضمون بائساً بؤس الخسران والبلايا والرزايا. ومأخوذ بفكرة اليقظة (المذهبية!) حتى لو عنى ذلك ضموراً في ظلمات لا قبس نور فيها! يخرج على بيئته كأنّه خارج الى يوم القيامة! ويخرج على أخصامه كأنهم عصاة الزمن الأول وأعداء المصطفى نفسه! يشط في التأويل حتى ينسف النص الأساس. ويتمسك بخطاب «الأمة» الجامعة لكن من زاوية ضيقة لا تترك ركناً من أركان هذه «الأمة» من دون تفتيت!
في عالمه المسوّر بالغيبيات السماوية، لا يلحظ حقائق الأرض. وفي تماهيه مع ذاتياته لا يلحظ السحر الكامن في النصّ المقدس عن ترادف الخلق مع اختلاف المخلوق «وجعلناكم شعوباً وقبائل»… يدّعي الحق بالاحتكار مع أن «البضاعة» عامة والناس أجناس والكتاب مفتوح ومتاح! ويدّعي ريادة «الفئة الناجية» مع أن الريادة متاحة والخطب جلل، ومثله أمثال، وضجيج ساحات الوغى يصم الآذان ويعمي البصر والبصائر!
يأخذ الدنيا غلاباً ووفق منطق الفسطاطين.. أصولي وينكر على الآخرين أصوليتهم. ومذهبي ويأخذ على غيره مذهبيتهم. وغيبي ويأخذ على الآخرين غيبتهم وغربتهم..
لو يرأف بحاله و«يعود» من غربته. لو يتواضع قليلاً ويعترف بأنّ لله أحزاباً غيره كثير.
(هذا النصّ مستعاد)