ما الذي يحضّر له «حزب الله» فوق «نار مدروسة» لا تشبه تلك التي اندلعت قبل أيام؟ وكيف سيواجه الاستحقاقات الداخلية التي تزداد وطأة وحدّة، خصوصاً على صعيد الواقع الاقتصادي – المالي الذي يشكل خطراً حقيقياً على لبنان؟
صار واضحاً أنّ المشاورات التي أجراها الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله مع «الحليفين» سليمان فرنجية وجبران باسيل أخيراً، تندرج في إطار رفع مستوى التنسيق ومنسوب الجهوزية السياسية للتعامل مع التحديات الراهنة، ولمواكبة تطورات محتملة في المرحلة المقبلة.
وما يمكن استنتاجه تلقائياً من هذه الحركة السياسية، أنّ الحزب، الذي أكَبّ خلال الاسابيع الماضية على درس كل الاحتمالات الممكنة، قرّر أن يبادر في أكثر من اتجاه، خصوصاً على صعيد مواجهة الأزمة الاقتصادية – المالية المُرفقة بعقوبات أميركية متدحرجة، تتخِذ شكل الحصار المالي على الحزب وبيئته.
وضمن هذا السياق، تندرج «قوة الدفع» التي أعطاها الحزب لخيار تفعيل الحوار الرسمي مع الدولة السورية في هذا التوقيت المصنّف، وفق ساعة الضاحية الجنوبية، بأنه «ملائِم» إقليمياً ربطاً بموازين القوى في المنطقة، و»مُلحّ» محلياً تحت وطأة الاختناق الاقتصادي الذي يفرض الانفتاح على دمشق لإعطاء المزارعين والصناعيين فرصة التنفس عبر الرئة السورية، خصوصاً بعد إعادة فتح معبر البوكمال الذي يشكّل شرياناً حيوياً من شأنه أن يربط لبنان بالسوق العراقية الرَحبة، وبالتالي أن يَضخّ أكياساً من الدم في عروق الاقتصاد المتيبّسة.
وأيّاً تكن الخيارات التي سيعتمدها الحزب بالتعاون مع حلفائه، إلّا أنّ الثابت لديه، وفق العارفين بما يدور في كواليسه، أنه «لن يقبل بـ»إلباسه» ثوب الأزمة الاقتصادية – المالية وتحميله أوزارها وتبعاتها، كما يحاول البعض أن يفعل، في إطار مواصلة التحريض المتعدّد الاشكال على الحزب».
وعليه، لن يتساهل «حزب الله»، كما يؤكد القريبون منه، مع محاولات تزوير الحقائق وتشويه الوقائع، «ولن يسمح بأن يُلقي عليه المتمرسون في الفساد ومحترفو سرقة المال العام على امتداد عشرات السنين، تَبِعات المأزق الاقتصادي الذي تعود جذوره الى عقود خَلت، يوم كان الحزب بعيداً من هذا الملف وغير مؤثّر كثيراً في رسم اتجاهاته».
وما يزيد من تَحسّس الحزب حيال تعمّد البعض ربط الأزمة المتفاقمة به، هو أنّ «أغلب من يصوّب عليه يملك بدائل من لبنان إذا حصل انهيار كبير، سواء جنسيات أخرى أو حسابات مصرفية في الخارج، بينما الحزب، قيادات وقواعد، ليس له سوى لبنان، ولا خيار أمامه إلا بذل كل جهد ممكن للحؤول دون انهياره».
ويلفت المطّلعون على موقف الحزب الى أنه لغاية عام 2005، «كان موجوداً خارج صفوف الحكومات المتعاقبة ومُمتنعاً عن منح الثقة النيابية والسياسية لمعظمها، وكان من أشد معارضي السياسات الاقتصادية والمالية في تلك الحقبة وما رافقها من استدانة وحسابات خاطئة وخيارات رَيعية ومحاصصة بين أطراف النظام، وحتى عندما دخل نادي الحكومات بعد الانسحاب السوري لم يُعطَ حقائب وازنة، وظل منتظراً الى عام 2019 لينتزع وزارة الصحة بالقوة الناعمة».
وانطلاقاً من هذا العرض، يعتبر القريبون من دائرة القرار في الحزب أنّه «لا يجوز عند تحديد المسؤوليات تَمويه هويّة «الفاعل» الحقيقي وتجاهل التكاليف المترتبة على مسار طويل من الاخفاقات والارتكابات التي تحمل توقيع جهات تَولّت الحكم منذ عام 1992، بحيث لا يصحّ اليوم تحميل «حزب الله» المسؤولية عمّا آل اليه الوضع الاقتصادي – المالي بحجّة أنّ سلوكه هو الذي تسبّب بالحصار الاميركي وزيادة الأعباء على الاقتصاد والليرة، مع ما يعنيه ذلك من اختزال مُتعَمّد للأزمة وتحوير أسبابها الحقيقية».
وعليه، يؤكد العارفون انّ الحزب «لن يقبل بتدفيعه فواتير السياسات الفاشلة والديون المتراكمة والفساد المستشري والهدر المزمن، وقد يلجأ الى الخيارات القصوى عندما يتبيّن له انّ كلفتها ستكون أقل من ثمن حرب الاستنزاف التي تعتمد على ضَخ السم في عروق بيئته عبر جرعات متدرّجة، وتركه يجري ببطء في الجسم».
وهناك في بيئة الحزب من يدعوه الى أن يأخذ في الحسبان كل الاحتمالات الضرورية للدفاع عن نفسه وجمهوره، وصولاً الى أن يدرس إمكان استقالته من الحكومة في لحظة ما، إذا اقتضَت الضرورة ذلك، وتحديداً متى وجد أنّ مخطط تحميله مسؤولية الانهيار يكاد يصبح ناجزاً، «خصوصاً إذا تعذرت السيطرة على الأزمة وتقاطعت حسابات خصوم الحزب في الداخل والخارج عند مصلحة إلقاء تَبعاتها عليه».
ويعتبر أصحاب هذا الرأي أنّ طريقة تعامل الحكومة مع العقوبات الاميركية مخيّبة للآمال، لافتين الى أنّ «الحزب لا يريد منها أن تحميه، فهو يستطيع ان يتدبّر أموره وأن يواجه الحصار المالي الاميركي، لكن المطلوب منها فقط أن تؤدي واجبها البديهي في الدفاع عن مواطنيها ومنع واشنطن من الاستقواء عليهم والاستفراد بهم، فقط لأنهم يشكّلون جزءاً من بيئة الحزب».
ويشير هؤلاء الى أنّ قيادة الحزب كانت مُمتعضة من نمط التعامل الرسمي مع استهداف «بنك جمّال»، حيث بلغ عدد ضحايا «رصاص» العقوبات العشوائية نحو 89 ألف مودع، يشكّلون مع عائداتهم شريحة واسعة، «والأسوأ أنّ بعض المصارف امتنعَت عن فتح حسابات لكثير من المودعين لدى «جمّال ترست بنك»، أو رفضت صرف شيكات ممنوحة لهم من مصرف لبنان».
وفي مقابل اقتناع «الغاضبين» من الحكومة بجدوى خروج الحزب منها في لحظة معينة، يعتبر «الواقعيون» أنّ الحكمة تقتضي عدم مغادرته صفوفها مهما كانت مَآخذه عليها، «إذ انها تمنحه غطاءً سياسياً وشرعياً هو في أشد الحاجة إليه في هذه المرحلة التي تشتد فيها الضغوط عليه، الى جانب أنّ وجوده في الحكومة يفيده في حماية ظهره من أي استهداف داخلي، والتأثير في الوجهة الاقتصادية للدولة، وتفعيل دوره في معركة مكافحة الهدر والفساد، وتحصيل ما أمكن من مطالب وحقوق لجمهوره، إضافة الى أنّ نَسف المعادلة الحكومية قد يكون محفوفاً بالمخاطر في هذا الوقت، ربطاً بالتداعيات الوخيمة التي يمكن ان يتركها على الوضع الاقتصادي – المالي الهَش.