لم يكن أكثر المُخاصمين للرئيس سعد الحريري أو المُتصيدين له يتوقع ما آلت إليه أموره في ظل أزمة متعددة الوجوه يمرّ فيها زعيم «تيار المستقبل» لا يبدو من أفقٍ لها، بينما يبدو أن العهد ومعه «حزب الله» قد تجاوزا أمره ليدعما حكومة الرئيس حسان دياب حتى الرمق الأخير ربما حتى أواخر ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون.
كمن يطلق النار على نفسه!
ويتوقف كثيرون، ومنهم محبون للحريري ودائرون في فلكه، عند غلطته الكبرى بالخروج من الحكم، وهو بذلك بدا كمن يطلق النار على نفسه! وربما شكّل حسابه الخاطئ وكانت الثورة الشعبية في أوجها، أن في إمكانه الحلول بطلاً بعين الناس عبر حكومة يُبعد عنها الرموز التي كرهها المنتفضون وعلى رأسهم رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، جوهر هذا الخطأ.
هي حسابات بدت غريبة إذا ما قوربت اليوم. لم تكن «التسوية الرئاسية» بين الحريري وعون تتضمن فقط ما أُعلن منها، أي حلول كليهما على رأس الرئاسة الطائفية. لقد كان الأمر يتعدى ذلك الى تفاهم مستقبلي بين الحريري وباسيل ليشكلا ثنائي ما بعد رئاسة عون، في ظل سباق مع الزمن يخوضه عون وباسيل لتولية الثاني عرش الرئاسة الأولى المقبل.
والواقع أن متابعين لموقف باسيل والعهد يتوقفون عند أفضالهما على الحريري وحمايته خلال مراحل مختلفة منها أزمته في السعودية وتكريس زعامته الشعبية التي كانت تتآكل في وسطه السنيّ، من دون الاعتراف في المقابل بفضل الحريري في إيصال عون الى الرئاسة.
ومنذ أن قدم الحريري استقالته، ولاحقا مع محاولة إبعاد باسيل عن الحكومة، بدأت النزاعات الحريرية مع العهد الذي لا يبدو أنه غفر لزعيم «المستقبل» خطيئته، لا بل أن الأمور إتخذت الطابع الشخصي بين الحريري وباسيل. ومنها، إنطلق «التيار الحر» في حملة عنيفة تطال هذه المرة الحريرية السياسية والإقتصادية والإجتماعية وتحميلها وزر ما آلت إليه الأمور في البلاد، في استرجاع للماضي الذي اعتقد كثيرون أنه ذهب أدراج رياح «الإبراء المستحيل».
خسارة الحزب
في هذه الأثناء، فقد الزعيم «المستقبلي» غطاء الخصم – الحليف، اللاعب الأهم في البلاد والذي آزره وتمسك به حتى اللحظة الأخيرة: «حزب الله». وبعد نزاع طويل ومؤذٍ للبلد لسنوات، تمكن الحزب والحريري من تحييد القضايا الثلاث ذات الخلاف في ما اعتبره «المستقبليون» «ربط نزاع» مع الحزب: المحكمة الدولية، السلاح والتدخل في سوريا.
والحال أن موقف الحزب كان جوهرياً في حلول العماد عون رئيسا للجمهورية، فهو، وإن لم يتمكن من فرضه أو لم يشأ، فقد منع غيره من الحلول رئيساً مثل زعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية الذي فقد أيضاً دعم الحريري للرئاسة لصالح عون، وهو ما خرج به الحريري ليذكر العهد بفضله عليه.
حتى أيام بعد حدث 17 تشرين الأول المزلزل من العام 2019، كانت التسوية الثلاثية صامدة.. إلى استقالة الحريري التي بدت بالنسبة الى العهد والحزب إيعازاً خارجياً أكثر من كونها رغبة بمحاكاة الانتفاضة الشعبية التي شكل الحريري أحد استهدافاتها.. وضحاياها.
التعيينات.. «طارت»؟
لعلّ الحريري اعتقد أن حكومة دياب لن تُعمّر طويلاً، وبرغم أن أحد حلفائه المفترضين، زعيم «القوات اللبنانية» سمير جعجع، قد وجه إليه ضربة غير متوقعة حائلاً دون الغطاء المسيحي المُعتبر لحكومته، فإن زعيم «المستقبل»، الذي بات معارضاً، ذهب في معركته إلى النهاية، معتقداً أنه «المايسترو» الذي سيضبط إيقاع رئاسة الحكومة ولو بعد حين.
من ناحيتها، خطت حكومة دياب خطواتها الأولى بثبات، وشرعت تحصل يوما بعد الآخر على التأييد الخارجي، أما ذلك الداخلي، فقد تكفّل به وباء «كورونا» الذي شكل، برغم سلبيته، رافعة ذهبية للحكومة أحسنت استغلال فرصتها.
على أن دياب سرعان ما اقتحم المسرح وتحالفاته. فهو أخذ يبني علاقة طويلة الأمد مع العهد، وكان الموقف متماهيا في أكثر من ملف، بدءاً من الديون المالية الخارجية مروراً بملف عودة المغتربين وصولاً حتى الآن على ما يبدو الى ملف التعيينات.
في هذه الأثناء، وبينما أمضى الحريري الاسابيع الماضية على مقاعد المتفرجين، مدونا ملاحظاته على أداء الحكومة، معارضاً بتأن من دون الدخول بمعركة شخصية مع دياب، تفجّر غضبه عارماً مع محاولة إبعاده في التعيينات المالية الحساسة والتي تتعلق للمفارقة بالطائفة السنية.
هل كان الحريري يعتقد أن دياب سيمر مرور الكرام على رئاسة الحكومة من دون منافسته على ملف كهذا؟
هو سؤال متأخر أشهراً عدة بالنسبة الى من تمرس السياسة واكتسب خبرة مناوراتها، على أنه في هذا الملف بالتحديد، لا يبدو رئيس الحكومة السابق وحيداً. لقد كشف الموقف الأميركي المتمسك بالنائب الثالث لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري، أن هذا الملف الحساس أكبر من ان يولى الى محاصصات بين أركان الحكم.
وبرغم موقف لافت لفرنجية رافض للتعيينات المالية ذات العلاقة بالمسيحيين ومطالبا علانية بحصته فيها، تبدو العثرة في هذه القضية متعلقة بالمنصبين السنيّين، نيابة الحاكم ورئاسة لجنة الرقابة على المصارف.
لقد كشف هذا الملف أن دياب سيكون ضيفاً ثقيلاً على الطبقة السياسية، وهو لا يزال يتمسك بشدّة بسليم شاهين لنيابة الحاكم، بينما مرر رسالة توافقية الى الحريري عبر تسمية موفق اليافي لرئاسة لجنة الرقابة، وهو القريب من بيئة زعيم «المستقبل» أو أقله غير المعادي لها.
رفض الحريري بشدة هذا العرض، لا بل أنه عارض البحث بأسماء مقربة من بيئته تأتي كحل وسط على هذا الصعيد وأبرزها مازن سويد وهو الخبير في المجال النقدي والمالي والذي قد لا يكون مرفوضاً من أخصام الحريري وأهمهم «حزب الله»، وعامر بساط الذي تردد اسمه أيضاً كخبير مالي ويعمل في الولايات المتحدة وهو من مسقط رأس الحريري صيدا.
على أن كل البدائل التي طُرحت لم تدفع الحريري سوى الى التشدد أكثر فأكثر لحماية بعاصيري الذي لا يزال مستمرا لاعبا رئيسيا في القطاع المصرفي وركناً فيه منذ نحو 30 عاماً. ولقي زعيم «المستقبل» تعاطفاً أولياً من رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يحفظ له مساهمته الأساسية في تأمين نصاب جلسة الثقة والموازنة التي كرّست شرعية حكومة دياب.
على أن الموضوع في صراع العهد ضد الحريري يتعدى أيضا التعيينات ليشمل أسس الحريرية في النظام، ويبدو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هدفاً لا يكل الأخصام في استهدافه. وجاء الصراع على التعيينات المالية في إطار ذلك، وفيه أيضاً مشروع تخفيض عدد نواب الحاكم الذي يواجه صعوبات كبيرة نظرا لتعقيده ودقته الطائفية، والذي تستبعد أوساط مالية إقراره اليوم.
وبغض النظر عمّن سينتصر في مسألة التعيينات التي باتت مستبعدة في الوقت الحاضر وهو ما يدفع الحريري الى التقاط الأنفاس مرحلياً، سيشكل الدفاع عن مشروع الحريرية الإختبار الحقيقي لزعيم «المستقبل» الذي لم يعد يجد من الحلفاء سوى الزعيم «الإشتراكي» والحليف القديم وليد جنبلاط، بينما لا تبدو المسافة مع بري بعيدة، وإن يشوبها عتب كبير من قبل الأخير بعد ابتعاد الحريري من الميدان برغم كل محاولات رئيس المجلس لإبقائه فيه، لكن حنين بري يبقى إليه في ظل الكيمياء شبه المفقودة مع دياب ونتيجة علاقة الأخير المتعاظمة مع العهد.
في ظل كل ذلك، اقتنص دياب الفرصة لتبييض صورته رافضاً تعيينات تحاصصية كان انغمس فيها منذ البداية، وهو سيسعى جاهداً الى تعزيز فرصه في الحكم وفي الإدارة سواء في المراكز المالية أو تلك السنية في إدارات شاغرة في الدولة. وفي مواجهته، لا يبدو أن الحريري يريد أية تغييرات في التعيينات الخاصة به وهو موقف يبدو مشتركاً مع الأميركيين. وليس أمامه، وفي مواجهته خصمان كالعهد و«حزب الله» يجهدان بكل قوة لحماية الحكومة التي لا بديل عنها من دون أن يذهبا بمعركتهما ضد الحريرية الى النهاية حتى محاولة شطبها، سوى الحضن الدافئ لرؤساء الحكومات السابقين، مزايداً في شعبوية تتعلق بالطائفة بينما يواجه تحديات سنية مزايدة عليه يبدو أهمها من «أهل البيت»!