انقسمت الآراء حول استضافة حزب الله لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي. بعضها كان مؤيداً وداعماً بلا شك. لكن البعض الآخر رفع الصوت محتجاً ومنتقداً. نتحدث عن الشريحة المحسوبة على التيار المؤيّد للمقاومة، الحاسمة في خيار الممانعة، وإن كان بينها من يقف ربما بعيداً عن المعمعة العراقيّة، ويفوته تالياً عدداً أساسياً من المعطيات والوقائع. في النهاية، نحن اليوم أمام عراق جديد، وما صار قائماً في هذا البلد بعد غزوة «داعش» في حزيران الماضي، جبّ ما قبله.
بعد الغزو الأميركي، ظهرت بوادر نزعة انعزالية عند قسم كبير من فريق الحكم الجديد. خاض الجميع معركة الوصول الى السلطة في الداخل. أما خارج العراق، فكانت العين على مواقف ايران من جهة، وحزب الله من جهة ثانية. وظل الكل يراقب حركة وخطوات المرجع السيد علي السيستاني من التطورات بكثير من الدقّة والحرص. وما لم يقله أحد من هؤلاء طوال السنوات الماضية، هو أن التحدي في بلاد الرافدين كان مختلفاً. صحيح أن الاحتلال الأميركي أزاح نظاماً مستبداً، في خطوة مثّلت انتصاراً لكل معارضي صدام حسين. لكن في مكان آخر داخل هذا البلد وخارجه، بقيت الصورة الحقيقية للاحتلال الأميركي الموصوف. وفي مفهوم إيران وحزب الله، كان احتلالاً ليس فيه من خير مقصود، ومن الواجب مقاومته، على قاعدة أن آثاره تتجاوز العراق لتصيب خصوم أميركا، من إيران إلى سوريا الى حزب الله.
عند تشكل مجلس الحكم الأول، أصيب الجميع بالصدمة جراء اندفاع قيادات عراقية بارزة صوب التفاهم مع الأميركيين. كان بين هؤلاء القوى الشيعية، كما تمثل اليسار والإخوان المسلمين. الكل كان أمام استحقاق مضطر لأن يتخذ منه موقفاً، لكن لكل حساباته. من جانب إيران، كان هناك سعي من اليوم الأول، على جعل الاحتلال مكلفاً للجانب الأميركي، وفي الوقت نفسه مساعدة العراقيين على اعادة انتاج حكم جديد، ولو عبر ما سمي العملية السياسية. ومن جانب حزب الله، كان هناك هاجس المحافظة على وحدة الشعب العراقي من خلال المقاومة المباشرة للاحتلال. ومن جانب المرجعية، كان هناك هاجس عدم عودة النظام البائد، والتعجيل في إنهاء الاحتلال. عناوين كانت تفترض دقة في المقاربة. وحصل الآتي:
– رفضت ايران الاحتلال او التعاون معه. ووسعت من علاقاتها مع جميع الأطراف العراقية من دون استثناء.
– رفضت المرجعية الشيعية اعطاء الشرعية للاحتلال ورفضت التواصل مع ممثليه، وحرصت على ممارسة ضغوط مستمرة على الحكم السياسي للتعجيل بتولي زمام الأمور وإخراج الجيش الأميركي من البلاد. ومارست غض الطرف عن كل الدعوات الى المقاومة أو حتى أنشطتها. هذه المرة، لم تكن الحوزة صامتة كما يعتقد كثيرون. كانت لديها حسابات كثيرة. عملها كان يتكامل مع جهد ايران ومقاربة الولي الفقيه هناك. تعلم المرجعية جيداً حجم الجهد الذي بذله حزب الله، على سبيل المثال، في تقديم الدعم الكبير لمجموعات المقاومة، بما فيها مجموعات من غير الشيعة، مع حرصه على إبقاء الحركة عراقية بحتة من دون أي سعي، ولو للحظة، من أجل خلق كيان له هناك. وتشهد بيروت على اجتماعات كثيرة بهذا الشأن. كما كان حرص إيران جليّاً في حفظ موقع المرجعية وفق آلية منعت حتى اليوم، أي صدام بين المقلدين، وهو الأمر الدائم في مثل هذه الحالات.
– أصر حزب الله على حفظ تمايزه كحركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ودعم حركة المقاومة ضد الاحتلال الأميركي. وابتعد قدر المستطاع عن الشأن الداخلي، حتى تطورت الأوضاع، وسارع العراقيون الى طلب وساطته في أمور تحصل في ما بينهم، أو في قضايا يرون مناسباً بحثها مع إيران بواسطة حزب الله.
في هذا السياق، حصل الكثير من التطورات. وعندما جرى انتخاب نوري المالكي رئيساً للحكومة، تم ذلك بموافقة الجميع. حتى دول الخليج سعت الى احتوائه وإلى بناء علاقة قوية معه. لكن للمالكي أكثر من نسخة. واحدة عندما تولى الحكم، وثانية عند التجديد لولايته، وثالثة في المرحلة الأخيرة. وفي كل المراحل، لم يجرؤ أحد على إعفاء المالكي من مسؤوليته عن أخطاء كثيرة حصلت في العراق، وخاصة على صعيد إعادة بناء الدولة، وربما يكون هذا السبب الرئيسي لقيام اعتراضات من داخل التركيبة العراقية على بقائه في منصبه. هو اشتهر بتفكيك الصحوات لمصلحة جيش عراقي تبيّن أنه لم يبن كما يجب، وهو الذي اصطدم مع الأكراد، ثم وسع مشاكله نحو سوريا ونحو السعودية على وجه الخصوص.
لكن من الخطأ المنهجي والعلمي القول بأن المالكي صنيعة الأميركيين، وأن اختياره غير بعيد عن الحالة الأفغانيّة أوالاستناد الى معلومات أو كتابات أميركية غير صحيحة، ولا سيما أن الأميركيين نادراً ما قالوا الحقيقة في إعلامهم أو حتى في وثائقهم السرية. كيف يكون صناعة أميركيّة، والكلمة المفتاح التي أوصلته إلى منصبه جاءت على لسان السيد مقتدى الصدر في اجتماع شهير في عام 2006: «إما المالكي أو أحرق العراق». هو الصدر نفسه الذي قاد حركة المقاومة العلنية الوحيدة للاحتلال الأميركي. وهو نفسه من قاد حملة اعتراضية ضد المالكي لاحقاً. أما الاعتراض الخارجي عليه، فلم يكن يوماً بسبب حرص هؤلاء على قيام دولة قوية وناجحة في العراق، بل لكون المالكي عاند توسع الحكم الذاتي الكردي في الشمال، وعندما فكك الصحوات، كان يرفض مشروعاً أميركياً ــ خليجياً لبناء جيش رديف في غرب العراق، ثم هو من قاد معركة وقف العمل بالاتفاقية الأمنية التي تسمح للأميركيين بالبقاء في العراق. أما سبب تصاعد حدّة الغضب الخارجي عليه، وخاصة الأميركي والخليجي، فكان التزامه منذ عام 2012 سياسة إقليمية تصب في سياق عمل محور المقاومة، الممتد من إيران إلى سوريا ولبنان. وليس منطقياً تجاهل أن نوري المالكي هو المسؤول العربي الوحيد الذي جاهر بدعم الرئيس السوري بشار الأسد، وذلك في حضرة الرئيس الأميركي، وفي عقر البيت الأبيض. وللمالكي دوره الكبير، والكبير جداً، في توفير وسائل دعم اقتصادية لسوريا خلال الأزمة الأخيرة.
أما في ما يخص الموقف المباشر للمرجعية في النجف، فإن عدم إصدار فتوى تدعو الى الجهاد في العراق ضد الاحتلال الأميركي لم يكن يعني العكس. لم يرفض السيستاني المقاومة. لكن ما هو أهم، كان في إصدار الفتاوى وممارسة الضغوط الكثيفة لمنع اي رد فعل من المجموعات الشيعية على عمليات القتل اليومية التي يتعرضون لها من دون توقف منذ 9 سنوات على الأقل. ولو ترك السيد السيستاني الأمر من دون ضوابط، لكانت صورة الحرب الأهلية في العراق اليوم على وجه لم يعرفه التاريخ. عدا عن أن الجميع في العراق يعرف جيداً أن المرجعية لم تكن على الدوام راضية عن أداء الحكومات التي تعاقبت على إدارة العراق. وعندما تدخل السيستاني هذه المرة داعياً الى الجهاد ضد «مجانين العصر» إنما فعل ذلك ضمن إطار يحول دون فوضى كامنة يمكن أن تنفجر وتؤدي الى ما لا تحمد عقباه. وهو الذي يعرف كما الآخرين الأسوأ في القابل من الأيام.
أما عن حزب الله والعراق، فهو كان الوحيد الذي بادر إلى دعوة العراقيين جميعاً، وخصوصاً معارضي النظام، إلى عقد اتفاق سياسي ـــ اجتماعي على طريقة الطائف في لبنان، بقصد تجنب الغزو ومرارة الاحتلال. وعندما حصل الغزو، لم يبادر حزب الله إلى فرض مقاومة من الخارج، بل استند إلى وجود قوى من كل الأطياف. وهناك شهود أحياء على مجيء مجموعات من قوى وقيادات إسلامية سنية وعلمانية وعروبية الى بيروت، طلباً لدعم الحزب.
حزب الله واجه أياماً صعبة مع القيادات التي تعاقبت على الحكم في العراق. وتعرض لانتقادات كثيرة بسبب انشغاله بأولويّة الصراع مع اسرائيل. وكعادته في مثل هذه الحالات، اعتصم بالصمت. وهو لم يعمل يوماً في العراق بخلاف ما أفتى به السيد السيستاني. وكان له دوره الكبير في إقناع المالكي بعدد من الأمور السياسية المتعلقة بالمنطقة. ومع توسع انتشار «داعش»، لم يكن الحزب ليقف مكتوف الأيدي. وكما حضر في سوريا في اللحظة المناسبة، فقد تدخل في العراق في اللحظة المناسبة أيضاً. وكوادر المقاومة لا يوفرون للعراقيين دعماً وخبرات فحسب، بل يضعون في تصرّفهم خبرتهم المتعلّقة بإدارة بلاد فيها واقع من التنوع الطائفي والمذهبي شبيه بلبنان.
ما يرفض كثيرون التعامل معه بواقعية شديدة، هو أن المرحلة المقبلة سوف تشهد حرباً كبيرة ومكثفة. وسوف يرى المتحمسون للمجانين التكفيريين، بأمّ العين، كيف تشاركهم إسرائيل ــ وهذا ما حصل أخيراً في محاذاة الجولان ــ القتال بالنار، وليس بإلقاء البطانيات والحليب!