فليتخيّل اللبنانيون المشهد التالي: مجموعة مسلّحة تعترض موكباً للمطارنة في دولة مجاورة.. كيف كان ليتعامل إعلام «الممانعة» مع هذا المشهد؟ ستُعيد قناة «المنار» بثّ شريط يظهر أحد «رجال الله» وهو يلقي التحيّة لتمثال السيّدة العذراء في معلولا أو يبرود. وستتحدّث القناة البرتقالية عن «حقوق المسيحيين» في منطقة تعجّ بـ»الإرهاب والتكفير».
ليس غريباً أن يشهد لبنان، في ظلّ محاولات إضعاف صورة الجيش وقائده لحسابات ضيّقة، حالات من الفوضى الأمنية واعتراض مجموعة مسلّحة لموكب تابع لبكركي في البقاع الشمالي. لكن الغريب، هو في استنكار مسؤولي هذا المحور ما تعرّض له موكب المطارنة، الذي كان متّجهاً من بكركي الى دير الأحمر لتهنئة المطران حنا رحمه بانتخابه مطراناً على أبرشية دير الأحمر.
الانطباع الأوّلي الذي خرج به مسؤولون ممانعون هو: «يا للهول، كيف حدث هذا، يجب محاسبة الفاعلين»! لكن لما هذا التعجّب؟ ألم يصفّق هؤلاء لكلام الأمين العام لـ»حزب الله« السيّد حسن نصرالله، عندما دعا الى تعميم تجربة الحشد الشعبي في العالم العربي؟ تعميم تجربة ونموذج هذه الميليشيا يعني تشريعها. حتى أن القناة البرتقالية خرجت يومها لتبثّ تقريراً يُظهر مجموعة من المسلّحين الخارجين عن القانون، فقط للقول إن أهالي البقاع الشمالي يؤيّدون دعوة السيّد للتسلّح ولمواجهة «التكفيريين». فلماذا يستنكر هؤلاء اليوم ما تعرّض له المطارنة؟
يتزامن التعجّب والاستغراب، مع حملة ممنهجة يقودها رئيس تكتل «التغيير والإصلاح« النائب ميشال عون ضد قائد الجيش، ملوّحاً بالشارع وبالعصيان المدني وبالمواجهة. لماذا؟ فقط لأنه يرى أن لا وجود لأي مرشّح في الشارع الماروني لمنصب قيادة الجيش إلّا «الصهر».
اعتاد «محور الممانعة» خلط التحذير بالتهديد، خلال حديثه عن ضرورة الحفاظ على الاستقرار الداخلي، وابتزاز اللبنانيين بأمنهم. لكن لطالما أثبت هذا المحور فعلاً أنه هو من يمسك بخيوط الاستقرار، الذي يمكن أن يصبح هشاً حينما يريد أن يبعث برسائل داخلية وخارجية.
هكذا، أوصلت المجموعة المسلّحة الرسالة الى البطريرك بشارة الراعي، الذي تحدّث خلال جولته في البقاع الغربي وراشيا منذ أيام قليلة صراحة عن رفضه لمنطق الجنرال عون القائل بأن «حزب الله يحمي المسيحيين ولبنان من التكفيريين»، مشدّداً على دور الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية في حماية لبنان واللبنانيين. من يتخيّل أن تقوم مجموعة مسلّحة مطلوبة للعدالة بعشرات مذكّرات التوقيف بالوصول الى طريق سير موكب المطارنة الواقع في قلب منطقة نفوذ «حزب الله«، من دون رعاية أو حماية أو غض نظر؟
هذا من جانب «حزب الله«. أما من الجانب العوني، فإن ما حصل للمطارنة ما هو إلّا نتيجة حتمية لموقف عون الداعي الى طلب الحماية من «حزب الله« وحشده الشعبي. وكلامه هذا لا يصبّ إلا في إضعاف الدولة وضرب هيبة المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية، متلطياً خلف شعار «حقوق المسيحيين». وتأتي دعوته اليوم للنزول الى الشارع، في هذا الوقت الدقيق الذي تمرّ به المنطقة، تأكيداً على إمعانه في ضرب الاستقرار وتحدّي المؤسسة العسكرية وقائدها.
يأتي تحذير عون لقائد الجيش من التصدي لتظاهرته بمثابة استدراج للمؤسسة العسكرية لافتعال مشكل. وهو لم يكتفِ بهذا الحدّ، إنما ذهب إعلامه في التحريض المذهبي والطائفي الى حد وصف تيار «المستقبل« والفريق السياسي الذي ينتمي اليه الرئيس تمام سلام بـ»الدواعش»، الذين صادروا حقوق المسيحيين منذ العام 1990. ما مبرّر وصف سلام بـ»الداعشي» سوى أنه من البيئة المناهضة لحلفائه في المنطقة؟ الداعشي صارت شتيمة طائفية عنصرية يوجهها العوني لكل من يعارضه، شأنه في ذلك شأن «حزب الله« وإعلامه.
استقرار لبنان أصبح اليوم بين فكّيْ كماشة. فكّ عوني، يسعى حثيثاً للوصول الى السلطة قبل إحراز أي تسوية في المنطقة، ستأتي حكماً على حسابه. وفكّ «حزب الله«، الذي يُسهّل أعمال المجموعات الخارجة عن القانون خدمة لأهدافه. وفي الكماشة ذاتها، خروج عن منطق وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الذي قال من بيروت «إن اليوم ليس يوم المنافسة والتنافس، وإن كان لا بدّ من ذلك، فلتكن المنافسة على إعادة إعمار لبنان».. والإعمار يعني الدولة والاستقرار.