تحدّثت معلومات في الأسابيع الماضية، عن توجّه لدى طهران وحلفائها باعتماد الخطة «ب» في سوريا، على وقع إخفاقات الجيش السوري وحلفائه في الشمال والجنوب السوريَّين. هذه الخطة التي خلصت إليها اجتماعات مكّوكية جرت على خط الضاحية الجنوبية لبيروت ودمشق وطهران، تقضي بأن يكتفي محور «الممانعة» بالدفاع عن الشريط الممتد من دمشق الى الساحل مروراً بحمص، حيث يمكن أن يحظى هذا المشروع بدعمٍ مجتمع دولي يكثر الحديث فيه عن تقسيم سوريا. الأسباب الكامنة خلف هذا القرار كثيرة، يمكن إيجازها بسببين رئيسيين: الأول، أن إيران فقدت الأمل في السيطرة على كامل الأراضي السورية. والثاني، يكمن في قناعةٍ توصّلت إليها طهران، بضرورة وقف استنزاف ميليشياتها على مساحة سوريا، وتكريس «شلّالات الدم» في الدفاع عن «دويلة» مأمولة، وفي إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لكن المشروع الإيراني الجديد في سوريا يواجه الكثير من العقبات. فإيران و«حزب الله« اللذان تحدّثا في خطابهما الإعلامي عن «حماية الأقليات»، تبيّن أنّهما «ضحّيا« بها لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لإيران، حتى باتت هذه الأقليات ترى بأن الحرب ليست حربها، وبأن طهران ضحّت بها ولم تحمِها.
الطائفة العلوية، التي ينحدر منها بشار الأسد، باتت تتململ من خسائرها الفادحة ومن تزايد تدخّل إيران و«حزب الله« في مناطقها الساحلية. عدد العلويين في سوريا لا يزيد عن المليونين (أي نحو عُشر التعداد السكاني لسوريا)، نصفهم تقريباً من الرجال، وفي الغالب ثلث الرجال على أبعد تقدير هم في سن حمل السلاح (بين 18 و45)، وطبعاً يمكن التوقّع ان نصف هذا العدد على أقصى تقدير يحمل السلاح فعلاً. ما يعني أن ما بين نصف أو ثلثي القوة البشرية المقاتلة خرجت من ساحة المعركة، إن لم يكن بالقتل فبالإصابة. فالتقارير الواردة من سوريا تشير الى أن أكثر من 100 ألف علوي قُتلوا في المعارك (تقديرات أخرى تتحدّث عن 130 ألفاً). مئة ألف تعادل 10% من العلويين الذكور، وما لا يقل عن 20% من الذكور البالغين!
تقديرات صحيفة «التلغراف» البريطانية لم تكن مختلفة كثيراً. ففي تقرير نشرته مؤخرا حمل عنوان «في سوريا يدفع العلويون الثمن الأكبر»، ذكر سكان محليون وديبلوماسيون للصحيفة، أنه وفيما كان لدى الطائفة العلوية حوالى 250 ألف شخص في سن تؤهّلهم لخوض القتال، فإن ثلث هؤلاء أصبحوا في عداد القتلى. حتى أن القرى العلوية الواقعة في تلال اللاذقية خلت من الشباب، فيما ترتدي النساء ألبسة الحداد السوداء. وبحسب الصحيفة، فإن أكثر من «30 شاباً» علوياً يعودون يومياً في الأكفان. كما ذكر الأهالي أن نظام الأسد وإيران و«حزب الله« لا يكترثون لقتلى العلويين، وباتت تصل الجثث بـ»الشاحنات»، ومن ثم تداهم الميليشيات منازل بقية العلويين في قرى ريف اللاذقية الفقيرة، لسحب المزيد من الشباب كبديل عن النقص المتزايد في جيش النظام!
معارض علوي وصل الى بيروت مؤخّراً هرباً من بطش النظام و«حزب الله« وقمعهما لكل علوي يعارض الوجود الإيراني في الساحل السوري، تحدّث الى «المستقبل» عن تغيّرات يشهدها المزاج العلوي، موضحاً أنه «على الرغم من استحضار النظام للخطاب المذهبي بهدف شحن الشباب لحثّهم على الانضمام الى الجيش، إلا أن فئة ليست بقليلة باتت ترفض الالتحاق بالعسكر، لاقتناعها بأن الحرب ليست حربها. ومن يلتحق منهم بالجيش، إنما يقوم بذلك دفاعاً عن الطائفة وليس عن النظام».
وفي مشاهداته أيضاً، يلفت «ابن اللاذقية» الى جديد جنازات التشييع، التي باتت تهتف لـ»الشهيد حبيب الله» دون ذكر الأسد أو النظام، بعد أن كانت أصوات المشيّعين في بداية الثورة تصرخ «بالروح بالدم نفديك يا قائد»! كما أن الجنازات حالياً لم تعد ترفع صور حافظ وبشار الأسد، وتكتفي برفع صور القتلى.
ويتحدّث كذلك عن اغتيال الإيرانيين لمجموعة من رجال الدين والضباط والمفكّرين العلويين، الذين عبّروا عن تململهم من الوجود الإيراني في المناطق الساحلية.
كما توفي في الأيام الماضية المعارض السوري الشيوعي عدي رجب (علوي) داخل سجون النظام جراء تعرّضه للتعذيب. وقال المرصد السوري، إن رجب، الذي غادر الى مصر نهاية عام 2013، تلقى وعداً من وزير المصالحة علي حيدر بأن النظام لن يعتقله في حال عودته. لكن المخابرات السورية عمدت الى اعتقاله بعد عودته في نيسان الماضي، حيث تعرّض للتعذيب والضرب بقسوة ولا سيما على محيط كليتيه، ونُقل بعدها الى إحد المستشفيات وتوفي جراء قصور كلوي!
الأمر لا يتعلّق بالتضحية فقط بـ»ثلث أو نصف» الطائفة العلوية بحجّة حمايتها! فبعد أحداث «قلب لوزة» الأليمة، ونجاح النائب وليد جنبلاط في امتصاص غضب الشارع وإبعاد دروز السويداء عن مخطّط النظام في إيقاعهم بفتنة مذهبية مع محيطهم، كشفت المنظومة الإعلامية لـ»حزب الله« عن تخلّف 27 ألف درزي في السويداء عن الالتحاق بالجيش السوري. وهدّدت المنظومة أهالي السويداء، على لسان «قيادي في غرفة العمليات المشتركة في دمشق»، من أن عدم التحاق الدروز في الجيش، سيؤدّي الى انسحاب قوات الأسد من جبل الدروز، ليواجه أهالي المنطقة التكفيريين منفردين»! هنا، أقّرت «الممانعة»، من حيث تدري أو لا تدري، بأن دروز السويداء، الرافضين للالتحاق بالجيش السوري، هم ضد النظام. كما يمكن اعتبار حديثها عن سحب القوات السورية من السويداء، بمثابة التهديد، ربما بالسماح لـ»داعش« بالدخول الى جبل الدروز من الجهة الشرقية! وهذا ما أكدته صحيفة «التايمز» البريطانية، التي نقلت عن أهالي السويداء قولهم: «الاسد تخلى عنا لنُذبح على يد داعش»!
تواجه الخطة «ب» الإيرانية عقبات وتحدّيات جدّية: العلويون باتوا يسألون عن مصير مَن تبقّى من «ذكور منتجة» في الطائفة. والدروز يتحدّثون صراحة عن أن الأسد لم يحمِهم، بل تخلّى عنهم ليواجهوا مصيرهم بمفردهم. والمسيحيون في دمشق باتوا يخشون هجمة الإيرانيين على «باب توما» ، لشراء محالّ المسيحيين التجارية وبيوتهم الأثرية بأسعار خيالية، إضافة الى خشيتهم من ظاهرة ممارسة الإيرانيين لطقوسهم الدينية في قلب ساحة «باب توما«. ربّما بات المجتمع السوري، بأقليته وأكثريته وطوائفه ومذاهبه وأعراقه وأثنياته، على قناعة بأن محور «المقاومة» لم يحمِ أحداً، بل احتمى ببعض مكوّنات المجتمع السوري وضحى بوجودها لأغراض سلطوية – إيرانية مفضوحة.