بقلم عبادة اللدن
استعجل جبران باسيل الكشف عن الشروط التي قدّمها إلى الحزب ثمناً للقبول بوصول سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا، ولم يكن ليفعل ذلك لولا أنّه متوجّسٌ من نوايا الحزب ومسار الاتصالات الخارجية المتعلّقة بإنتاج تسوية رئاسية.
يعكس هذا الاستعجال وجود سباق بين مسارين لإنتاج رئيس للجمهورية: إمّا رئيس تحدٍّ للداخل والخارج ينتج عن تسوية محليّة-ثنائية بين الحزب والتيار العوني، وإمّا رئيس تسوية، تنتجه الاتصالات الإقليمية والدولية.
هكذا يتبيّن أنّ البعد الأوّل في مناورة باسيل أنّها «محلّية»، تفتقر إلى الغطاء الإقليمي والدولي، والأرجح أنّها ردّ فعلٍ على استبعاده من مسارات التسوية الإقليمية. فغطاؤه الخارجي ينحصر بدولة واحدة في الإقليم، فيما لبّ الموضوع ومصنع التسوية الرئيسي يتراوح بين الرياض وطهران، وما بينهما الولايات المتحدة الأميركية، وخامس «الخماسية» مصر.
البعد الآخر في المناورة أنّها «ثنائية» تفتقر إلى الشمولية الوطنية. فما يطرحه باسيل ليس إلا إنتاج رئيس وإدخال تعديل عميق في نظام الطائف باتفاق بين أحد حزبَي الثنائي الشيعي وحزب مسيحي واحد، مع استبعاد الحزب الشيعي الآخر، والحزب المسيحي الأقوى تمثيلاً بحسب نتائج الانتخابات الأخيرة، أي القوات اللبنانية، والبطريركية المارونية، والمكوّنَين السنّيّ والدرزي، وحتّى رئيس الجمهورية العتيد الذي هو موضوع التسوية.
أكثر من ذلك، يشترط باسيل أن يقبض الثمن مسبقاً، من خلال إقرار التشريعات اللازمة لإقرار اللامركزية الماليّة الموسّعة وما سمّاه «الصندوق الائتماني» (لديه التباس في فهم معناه سنأتي إليه لاحقاً). ولا سبيل لترجمة ذلك إلا بأن يتولّى الحزب إرغام رئيس مجلس النواب نبيه برّي على الدعوة إلى جلسة تشريعية لإقرارهما، والتصويت لصالحهما. فبغير ذلك لا يمكن للحزب والعونيين جمع الأغلبية الكافية لإقرار التشريعين.
هل يمكن للحزب أن يفعل ذلك؟
ثمّة عوائق كثيرة، منها ما يتعلّق بمضمون الطرح ذاته:
1- في شأن اللامركزية الماليّة، يدرك باسيل أنّها مفهوم مختلف تماماً عن «اللامركزية الموسّعة» التي نصّ عليها اتفاق الطائف. والقفز من هذه إلى تلك لا يمكن أن يتمّ باتفاق ثنائي بين حزبين، ولا يمكن أن يتمّ في عجالة البحث عن رئيس.
الأهمّ من ذلك أنّ الشيعة لن يسلّموا بـ»اللامركزية الماليّة»، فيما هم يتمسّكون بأحقّيتهم بوزارة المالية لدولة واحدة مركزية، ويسعون إلى تكريسها عرفاً دستورياً. فماذا يبقى من وزارة المالية إذا كانت دولة جبران باسيل ستجبي إيراداتها الخاصة في كسروان والمتن والبترون وسواها؟
2- في شأن «الصندوق الائتماني»، من الواضح أنّ باسيل التبس عليه الأمر. فالشرح الذي قدّمه للفرق بين «الصندوق السيادي» و»الصندوق الائتماني» كان خاطئاً تماماً.
الصندوق السيادي أو صندوق الثروة السيادي (Sovereign Wealth Fund) يعرَّف بأنّه كلّ صندوق استثماري تملكه الدولة، سواء كانت الغاية منه تملّك أصول عقارية أو ماليّة مثل الأسهم والسندات، أو شركات الملكية الخاصّة. والأمثلة على الصناديق السيادية كثيرة عالمياً، وهي ليست محصورة بالدول الغنيّة بالنفط والغاز، بل إنّها تشمل الصناديق الاجتماعية وصناديق التقاعد الحكومية. وقد يكون لدى الدولة الواحدة ثلاثة أو أربعة صناديق سيادية أو أكثر، لكلّ منها غرض مختلف عن الآخر، كما هو الحال في الكويت وأبوظبي والنرويج وسنغافورة.
أمّا «الصندوق الائتماني» فهو ذلك الذي يمنح ائتماناً، أي تمويلاً، كما هو حال صناديق التنمية العربية، ووكالات دعم الصادرات، وصناديق الدعم لقطاعات محدّدة.
وبغضّ النظر عن خطأ التسمية والالتباس الذي وقع فيه باسيل، فإنّ ما يطلبه فعلاً هو صندوق سيادي آخر، غير صندوق استثمار عائدات الغاز، يهدف إلى حصر كلّ الأصول الاستثمارية المدرّة للدخل في الدولة، بما في ذلك المرفأ والمطار وكهرباء لبنان وطيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان وغيرها الكثير. فهل إنشاء هذه الدولة داخل الدولة ممكن باتفاق ثنائي بين الحزب وباسيل؟
السياق الإقليميّ
لكنّ هناك ما يتجاوز مضمون الطرح الباسيليّ إلى السياق الذي يأتي فيه. ففي الأشهر الماضية، ناور باسيل في الاتجاه المعاكس حين لوّح للحزب بأنّه قادر على معاقبته بالذهاب إلى ائتلاف مسيحي خالص مع القوات والكتائب والبطريركية المارونية. فصوّت لجهاد أزعور، وأعلن على الفور استعداده للحوار مع الحزب. كانت تلك إشارة إلى أنّه لا يريد إحراق المراكب مع الحزب، بل يريد تسوية ثنائية بشروط أفضل.
كان رهان باسيل في ذلك الحين على أنّ الخيارات محدودة أمام الحزب. إذ إنّ هذا الأخير لا يستطيع أن يأتي برئيس وحده من دون تسوية أو أكثر خارج البيت الشيعي، ولا سبيل لديه لفتح كوّة في الجدار المسيحي المغلق في وجهه إلّا بالرضوخ للشروط العونيّة. كان ذلك قبل أن تنشط حركة المبعوث الفرنسي جان إيف لوديان، وتجتمعَ المجموعة الخماسية منتصف الشهر الماضي في الدوحة، وتُصدر بيانها الصارم.
في الأسبوعين الماضيين، رُصدت حركة سعودية على الساحة اللبنانية في أكثر من اتّجاه. ولا تفسير لذلك إلا بأنّ تقدّماً يُحرز في الاتصالات الإقليمية، ولو بكثير من الحذر والاحتراز من الألغام.
ليس في الأجواء ما يوحي بأنّ الحزب مستعدّ لنسف الانفراجات الإقليمية والذهاب في خيار التحدّي للداخل والخارج باتفاق محلّي ثنائي مع العونيين، خصوصاً أنّ هذا الاتفاق قد لا يكون كافياً على أيّ حال لانتخاب رئيس. لكن في الوقت ذاته لا يبدو الحزب حتى الآن مستعدّاً للتنازل عن مرشّحه ذي اللون الصريح، لصالح مرشّح تسوية، على غرار ما جرى حين أسقط اسم ميشال عون لصالح اسم قائد الجيش ميشال سليمان في 2008، مع اختلاف السياق والظروف والأسماء.
لم يصل الحزب إلى مرحلة التنازل عن اسم فرنجية لصالح تسوية على اسم جوزف عون أو سواه، ولم يصل إلى مرحلة استخدام ورقة باسيل لإسقاط الانفراج الإقليمي.
إنّها المرحلة الأخيرة من تجميع الأوراق واستخدامها. يفيد الحوار الثنائي الحزبَ في القول للخارج إنّ لديه ورقة الاتفاق مع العونيين لفرض سليمان فرنجية رئيساً من دون انتظار التسوية الإقليمية، فيما يضغط على العونيين بأنّ قطار التسوية الإقليمية قد يفوتهم إذا أصرّوا على طلب الأثمان الكبيرة… وفي الحالتين يبقى هذا الحوار الثنائي «مقطوعاً من شجرة»، في الداخل والخارج.