من عجائب هذا الزمن وغرائبه ان يحاضر «حزب الله» بالفساد في لبنان. هناك حزب مسلّح عمل كلّ ما يستطيع من اجل القضاء على لبنان ومؤسسات الدولة يهرب الى مكافحة الفساد في وقت لم يعد سرّا انّه ميليشيا مذهبية تعتبر لواء في «الحرس الثوري» الايراني. لم يخف الأمين العام للحزب حسن نصرالله في يوم من الايّام انّ كلّ ما لديه مصدره ايران. ذهب الى القول انّ ما دام المال موجودا لدى ايران، فهو متوافر لدى «حزب الله».
ما الذي جعل «حزب الله» يستفيق على الفساد، علما انّه فعل كلّ شيء منذ اليوم الاوّل لقيامه من اجل تغيير طبيعة لبنان وصولا الى جعل نفسه الطرف الوصيّ على البلد، خصوصا منذ خروج الجيش السوري من أراضيه في نيسان – ابريل من العام 2005 نتيجة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه وتظاهرة الرابع عشر من آذار 2005.
سعى اللبنانيون من خلال تلك التظاهرة، بعد شهر من اغتيال رفيق الحريري، الى جعل البلد يستعيد استقلاله. لكنّ «حزب الله» بذل كلّ ما يستطيع كي تحلّ الوصاية الايرانية مكان الوصاية السورية وكي يصل الى لبنان الى ما وصل اليه من بؤس وفقر وتعتير وافلاس…
قبل الكلام عن الفساد، يفترض في «حزب الله» ان يسأل نفسه لماذا كلّ هذا الإصرار على التخلص من المشروع الوحيد الذي كان يمكن ان يجعل من لبنان دولة حديثة قادرة على الاستفادة من الفرص المتوافرة في الاقليم، على غرار ما كانت عليه الحال في خمسينات القرن الماضي وستيناته ومنتصف السبعينات؟
بعيدا عن الضحك على الناس وبعيدا عن الشعارات البرّاقة الفارغة من ايّ مضمون، من نوع «المقاومة» و «الممانعة»، لا يستطيع «حزب الله» إعطاء دروس لاحد لا في الشفافية ولا في مكافحة الفساد. هناك مسؤولية كبيرة يتحملها الحزب عن الوضع الراهن الذي صار فيه صاحب الكلمة الاولى والأخيرة في تسمية رئيس الجمهورية الماروني. اكثر من ذلك، فرض «معايير» محددة بالنسبة الى كيفية تشكيل الحكومة اللبنانية. بدا همّه في مرحلة ما قبل الافراج عن الحكومة الحالية برئاسة سعد الحريري تحقيق اختراقات في كلّ الاتجاهات، خصوصا في المجالين السنّي والدرزي وذلك بعدما امّن لنفسه غطاء مسيحيا بفضل ما يسمّى «التيّار الوطني الحر».
لنضع جانبا مرحلة ما قبل السنة 2000 عندما كانت إسرائيل تحتل جزءا من جنوب لبنان. يمكن القول انّ «حزب الله» لعب دورا في اخراج الإسرائيلي واجباره على تنفيذ القرار 425 الصادر عن مجلس الامن في مثل هذه الايّام من العام 1978. بدل ان ينصرف الحزب الى المشاركة في كلّ ما من شأنه ضمان الاستقرار في لبنان بعد اعتراف الامم المتحدة بان إسرائيل نفّذت القرار 425 وعادت الى خط الهدنة للعام 1949 والذي يسمّى «الخط الأزرق»، وجد الحزب، الذي اختلق قضيّة مزارع شبعا، ومن خلفه ايران والنظام السوري طريقة لابقاء الجنوب ورقة تستخدم في لعبة تستهدف الاستقرار في لبنان. كان ذلك بالتفاهم مع إسرائيل التي يبدو واضحا انّ ما يناسبها في كلّ وقت هو ان يكون الجنوب اللبناني «ساحة» وارضا سائبة لا وجود للجيش اللبناني فيها كي تمرّر من خلالها الرسائل التي تريد تمريرها. من يتذكّر «الخطوط الحمر» التي اصرّت عليها إسرائيل في العام 1976 لدى سماحها، عبر هنري كيسينجر للجيش السوري بدخول الراضي اللبنانية «من اجل وضع اليد على القواعد التابعة لمسلحي منظمة التحرير الفلسطينية». منعت إسرائيل وقتذاك الجيش السوري من تجاوز خطّ نهر الاولي. كانت حجتها انّها تريد بقاء المسلحين في جنوب لبنان كي «تأخد وتعطي معهم بين حين وآخر».
تغيّر الكثير بعد حرب صيف العام 2006 وصدور القرار الرقم 1701. كانت تلك حرب انتصر فيها «حزب الله» على لبنان. زاد تركيزه على الداخل اللبناني، خصوصا بعد انتشار الجيش في الجنوب واكتشاف إسرائيل ان ليس في استطاعتها متابعة لعبة استخدامه ورقة في لعبة قديمة مارستها بالتفاهم مع النظام السوري. ففي عهد بشّار الأسد، صارت ايران هي صاحبة القرار في دمشق ولم تعد هناك قيود سورية على استخدام «حزب الله» لصواريخه.
من ينتصر على لبنان ويعتبر ذلك بديلا من الانتصار على إسرائيل، لا يحقّ له الكلام عن الفساد. من هو متّهم من المحكمة الدولية بلعب دور أساسي عبر اشخاص معيّنين في قضية اغتيال رفيق الحريري وجرائم أخرى ذهب ضحيّتها اللبنانيون الشرفاء فعلا، هو آخر من يستطيع الكلام عن الفساد. فاللعبة واضحة كلّ الوضوح. هناك خوف دائم لدى «حزب الله» وايران من استعادة الدولة اللبنانية عافيتها. لهذا السبب الأساسي كان تفجير موكب رفيق الحريري وكانت الجرائم الأخرى، من اغتيال سمير قصير، الى اغتيال محمّد شطح، مرورا بغزوة بيروت والجبل والاعتصام في وسط بيروت.
من يريد فرض الوصاية الايرانية على لبنان، لا يحقّ له الكلام عن الفساد وذلك في وقت يشترك فيه «حزب الله» في الحرب على الشعب السوري، وهي حرب صار عمرها ثماني سنوات.
لا يمكن للحرب على الشعب السوري التي يخوضها نظام اقلّوي لا هدف له سوى تفتيت سوريا، الّا ان تنهي يوما. هل سينسى السوريون ان «حزب الله» شريك في الحرب التي تعرّضوا له من منطلق مذهبي مرتبط بالتعليمات التي صدرت الى الحزب من «المرشد» علي خامنئي في ايران؟
في النهاية، ان قضية الفساد قضيّة حقّ يراد بها باطل. فالجريمة التي ارتكبها «حزب الله» عندما جعل دولته اقوى من الدولة اللبنانية من النوع الذي لا يغتفر. ليس هناك ما ما يوازي جريمة القضاء على مشروع الانماء والاعمار الذي كان خلفه رفيق الحريري. وليس هناك جريمة اكبر من الذهاب الى سوريا وتجاهل وجود حدود لبنانية – سورية. من اخطر ما حصل في الشرق الاوسط منذ قيام دولة إسرائيل على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في ارضه، تجاوز الحدود بين الدول. بالنسبة الى «حزب الله» وايران، ان الرابط المذهبي بات يتجاوز السيادة الوطنية اللبنانية المتمثلة بوجد حدود مع سوريا.
ليس الفساد قضية بسيطة. لكنّ الفساد يبقى نقطة في بحر ارتكابات «حزب الله» التي أوصلت لبنان الى الحضيض. هناك بكل بساطة محاولة هرب الى الفساد تفاديا لمواجهة الواقع المتمثّل في ان ليس لدى «حزب الله» أي مساهمة إيجابية في لبنان. الدليل على ذلك انّه يريد ان يصدّر اليه مشروعا فاشلا هو المشروع الايراني وتحويله ورقة في خدمة هذا المشروع الذي يرفضه الايرانيون والعراقيون والسوريون قبل ان يرفضه اللبنانيون. هذا مشروع حوّل ايران اسيرة عقوبات أميركية ودولية. ما ذنب لبنان كيّ يضعه «حزب الله» مع شعبه، بكل طوائفه ومذاهبه، تحت خطر التحوّل الى ضحية من ضحايا ايران؟…