من التقارير الاستخباراتية إلى التحليلات الصحافية، يعيش العالم حمّى النزاع في الشرق الأوسط، خصوصاً الساحة الأكثر اشتعالاً الممتدّة من العراق مروراً بسوريا، وصولاً إلى تداعيات الصراع في لبنان.
مع طول أمَد الأزمة الداخليّة في سوريا وتدهوُر الأوضاع في العراق، وإقحام ايران تنظيمَ «حزب الله» في الحرب السورية، وبالتالي ازدياد درجات العنف الذي يمارسه النظام السوري حيال جزء كبير من شعبه، سِيق البعض منه إلى التطرّف، استيقظت تنظيمات سُنّية أصوليّة تكفيريّة، أو عُمِدَ إلى إيقاظها، لتقف في مواجهة أصوليات أخرى شيعيّة. لعلّها تُختصر في التنظيمين الأقويَين المتصارعين على الساحة الشرق أوسطيّة اليوم: «تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام، أي «داعش»، و»حزب الله».
في المنطق العلمي والأكاديمي عن نظريات الحرب والعلوم العسكرية، تجوز المقارنة بينهما، وكان لا بدّ من التوقف عند معلومات وتحليلات خبيرين عسكريين استراتيجيين هما العميد الركن المتقاعد نزار عبد القادر والعميد الركن المتقاعد هشام جابر.
العقيدة العسكرية
في المبدأ، تُبنَى العقيدة العسكرية على أهداف سياسيّة تضعها أيّ دولة لتحقيقها أو من أجل الحفاظ على سيادة الدولة من أيّ هجوم طارئ لعدوّ ما، لكنّ العميد جابر لا يرى في «حزب الله» سوى عقيدة دفاعية بعد التحرير عام 2000، ويقول: «إنّها عقيدة الردع التي تمنع إسرائيل من التفكير والتخطيط لشنّ هجوم على لبنان، بدليل أنّ ترسانة الحزب العسكرية الأساسية تقوم على الصواريخ التي تقدّرها اسرائيل بـ70 إلى 80 ألف صاروخ».
ويعتبر العميد عبد القادر «أنّ هذا من حيث الهدف الظاهر، لكن قد تكون هناك أهداف اخرى تتعلّق بعلاقة «حزب الله» مع إيران والنظام السوري». ويشير الى «انّ تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام يجاهر بعقيدته المبنيّة على هدف أساسيّ وهو تحقيق الحُكم الاسلامي، وهذا يعني إنتاجَ الخلافة التي عرفها الإسلام في نشأته وفي العقود اللاحقة».
خصومُ «حزب الله» ينزعون عنه صفةَ المقاومة في قتالِه داخل سوريا، ويعتبرون أنّه يخوض الصراع هناك وفقَ عقيدةٍ مذهبية عسكرية هجومية، فيقول عبد القادر: «أعتقدُ أنّ في هذا القول شيئاً من الصحة، لكن لا يمكن حصر قتاله هناك بهذه النقطة فحسب، ولا بدّ من النظر إلى هذا الإرث الطويل من العلاقات والتحالفات الاستراتيجيّة بين قيادة «حزب الله» والنظام السوري، إضافةً إلى أنّه يجب عدم إغفال ما يسمّى محور المقاومة والممانعة الذي يبدأ بطهران وينتهي بجنوب لبنان».
أساليبُ القتال
في أساليب القتال على أرض المعارك في سوريا بين «حزب الله» من جهة و»داعش» وأخواتها من جهة أخرى، يبرز إلى الواجهة تكتيك حرب العصابات Guerrilla warfare، ويقول جابر: «اشتهر «حزب الله» باستخدامه ما يسمّى حرب العصابات في حربه مع اسرائيل، وهو تكتيك يقضي بتشكيل وحدات صغيرة لا يتجاوز عددها الـ12 عنصراً، وهم مدرّبون جيّداً ويعرفون بعضهم بعضاً والأرض التي يقاتلون فيها. ينصبون الكمائن، ويبرعون في الإغارة وعنصر المفاجأة، وهذا ما يتطلّب بيئةً حاضنة لها».
وينتقل جابر إلى الكلام عن «داعش»، فيقول: «في الحقيقة، لقد صنَع هذا التنظيم فتحاً جديداً في عالم الحرب الثوريّة، وله وجهان: فهو يعتمد أسلوب حرب العصابات من جهة عندما أرسَل إلى العراق مجموعات قتالية صغيرة نجحَت في نصبِ الكمائن وخلقَت أجواءً من الذعر، واستخدمَ تكتيك الجيوش النظامية من جهةِِ أخرى عندما هاجمَ الموصل والرقّة والحسكة والآن كوباني، معتمداً على الدبّابات والمدفعية والراجمات والعرَبات المدرّعة، لكن هذا ما يجعله مكشوفاً. كذلك، لا بدّ من الاعتراف بأنّ «داعش» متفوّق باستعماله الحربَ النفسيّة، لأنّه هجوميّ لا دفاعي، ينكفئ خطوةً ثم يتقدّم خطوتين».
هناك رأي يعتبر أنّ تنظيم «داعش» يتمتع بخلفيّة مقاومة في نشأته، تماماً مثل «حزب الله»، وهذا ما يعبّر عنه عبد القادر: «نشأة «حزب الله» كانت ردّة فعل على الاحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان رافعاً شعارَ «المقاومة»، وتنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» يعود في جذوره إلى تنظيم «القاعدة» الذي أسَّسه في العراق أبو مصعب الزرقاوي، وقد اختبرَ عناصرُ هذا التنظيم قتالَ «حرب العصابات» ضد الجيش الأميركي في العراق، من هنا يلتقي مع تجربة «حزب الله».
لكنّ ما نراه اليوم هو انتقال «الحزب» إلى مرحلة جديدة، انتقلَ فيها من الردع إلى إعداد قوّات هجوميّة قادرة على الردّ على إسرائيل، ونرى الآن هذا المنحى الهجومي في سوريا، أي عمليات عسكرية صعبة لا تقوم بها سوى وحدات خاصة في الجيوش النظامية».
التعبئة لدى مقاتلي «حزب الله» و»داعش» تجعلهم يقاتلون حتى الرمَق الأخير من دون أيّ خوف من الموت، لكنّ جابر يميّز بين نوعيّة تعبئة المقاتلين المنتمين إلى التنظيمين: «مقاتلو «حزب الله» ليسوا انتحاريين بل استشهاديّون، يقاتلون ويموتون في سبيل الوطن، وهم مقتنعون بأنّهم إذا قُتلوا فسيتحوّلون شهداء، أمّا عناصر «داعش» فهم انتحاريّون، مستعجلون للذهاب إلى الموت لأنّهم يعتقدون أنّ نصيبَهم سيكون الجنّة، لذا هم يخضعون لنوع من عمليات غسيل الدماغ».
الترسانة العسكريّة
تختلف طبيعة الترسانة العسكرية التي يملكها التنظيمان، ويشرح عبد القادر بإسهاب الفارقَ بينهما: «يملك «حزب الله» مخزوناً كبيراً من الصواريخ التي تشكّل قوّة ردع ضد اسرائيل. أمّا في قتاله في سوريا فلا يمكنه استخدام هذه الترسانة، وبعد عمليات الهجوم الكبيرة التي حصلت في ريف حمص والقلمون وتكثيف مشاركته فيها، أعادت قيادته النظر في التكتيك العسكري ومتطلبات القتال الذي يستلزمه مسرحُ عمليات واسع».
في المقابل، يعطي جابر الأفضلية لمقاتل «حزب الله» من حيث التجهيز الفردي أي «أنّه مقاتل مجهّز بكلّ ما يسهّل له القتال على أرض المعركة، كالبندقية والمناظير الليلية وأجهزة الاتصال المتطوّرة والذخائر، والصواريخ المحمولة على الأكتاف». ويؤكّد أنّ ترسانة «داعش» العسكرية لا تقلّ شأناً عن أيّ جيش نظاميّ، بعدما استولى على جزء كبير من الأسلحة العراقية تُقدّر قيمتها بسبعة ملايين دولار، وتشمل الدبّابات والعرَبات المصفّحة والمدفعيّة».
المقاتلون بالأرقام
تتفاوَت التقديرات إزاء عدد المقاتلين المنضوين في صفوف «داعش» و«حزب الله»، لكنّ الصورة تبدو أكثر وضوحاً لدى «الحزب» الذي يُقدّر عبد القادر عدد مقاتليه، إذا دقَّ النفير العام، بما لا يتجاوز الـ30،000 مقاتل حدّاً أقصى، يشارك منهم زهاءَ 10،000 مقاتل في سوريا. أمّا عدد مقاتلي «داعش»، فيزداد بسرعة، إذ كان هناك حديث عمّا يقارب الـ 14،000 مقاتل في سوريا، من بينهم زهاء 7،000 مقاتل أجنبي.
وعندما توسّع إلى العراق، انضمّت إليه فصائل عديدة كانت معادية لنظام رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، والرقم الذي يُتداوَل حاليّاً مع تدفّق المقاتلين الأجانب هو 50،000 مقاتل».
ويؤكّد عبد القادر وجابر أنّ مقاتلي «حزب الله» لبنانيّون، ويعتبران أنّ تنظيم «داعش» يتألف من مقاتلين إسلاميين متطرّفين يُشكّل السوريّون والعراقيون عدداً كبيراً منهم، إلّا أنّه جَذبَ أيضاً آلاف المقاتلين من كلّ أنحاء العالم، خصوصاً من فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
الإمكانات المالية
في مقارنةِ الإمكانات المالية، يتفوّق «داعش» على «حزب الله». ويشير عبد القادر إلى أنّ «مصادر تمويل التنظيم الإسلامي تأتي من بعض الجمعيات الإسلامية.
ويجب ألّا ننسى أنّه يفرض نوعاً من الضرائب والخوّات على المناطق التي يسيطر عليها، وفرضُ سطوتِه على مناطق حدودية تسمح له بجَني مداخيل كبيرة، وهو يمارس ما يسمّى «اقتصاد حرب»، إضافةً إلى استيلائه على مصافي وآبار نفط صغيرة، ما يسمحُ له بجَني ما يقاربُ 50 مليون دولار في الشهر. ويُقال إنّه عندما احتلّ الموصل وضَعَ يدَه على ثروةٍ كبيرة من المصرف المركزي تقدَّر بـ400 مليون دولار».
ويذهب جابر إلى أبعد من ذلك: «في البداية، كانت الجهات المموّلة لتنظيم «داعش» تُرسِل له الأموال برضاها، أمّا اليوم فباتت عرضةً للابتزاز، وأقصدُ هنا دوَل الخليج التي باتت مرغمةً على تمويل التنظيم الأصولي لكي لا يسبّب لها مشاكلَ داخليّة».
أمّا تمويل «حزب الله» فلا يختلف اثنان على أنّ مصدره إيران. ويلفت عبد القادر إلى «أنّ الحزب أنشأ نوعاً من البنية الاقتصادية المنتِجة التي بدأت تغطّي جزءاً من نفقاته العسكرية والاجتماعية، علماً أنّ موازنته المالية مضبوطة».
النقاط الساخنة
يتوسّع جابر في الكلام عن هذا الموضوع، فيقول: «إنّ أكثر المناطق السورية التي تشهد معارك بين التنظيمين هي غوطة دمشق وحي جوبر حيث يسود الكرّ والفرّ، فهناك تحصّنَت التنظيمات الأصولية ومنها «داعش» بكثرة».
يبقى السؤال الأهم: ماذا عن الصراع بين «حزب الله» و«داعش» في لبنان؟ يجيب جابر: «ربّما هناك خلايا نائمة تابعة لـ»داعش» في الشمال، وتحديداً في طرابلس وعكّار وسير الضنّية والمخيّمات الفلسطينية وبعض أحياء بيروت وصيدا، لكنّها لا تستطيع تنفيذَ سوى عمليات محدودة.
أمّا المجموعات الكبيرة لـ«داعش» فتتحصَّن في جرود عرسال، وهي قادرة على الهجوم والاجتياح، إضافةً إلى مجموعة من «جبهة النصرة» في الجولان، تنتشر على طول خط وقف إطلاق النار مع سوريا. هؤلاء يمكنهم السير لسبعِ ساعات ليجتازوا المسافة بين بيت جن ومزارع شبعا ثمّ مدينة شبعا، وربّما تساعدهم إسرائيل على تحقيق ذلك».
ويشير جابر إلى «أنّ ثمّة خاصرة رخوة في البقاع الغربي، حيث تنتشر مجموعات من «جبهة النصرة» في الزبداني، وهي محاصرة، إذا تمكّنت من التسلّل إلى دير العشاير وراشيا الوادي وقراها، من الصعب أن يتصدّى لها «حزب الله»، لأنّ معظم السكّان هناك من المسيحيين والدروز، وسيجد الجيش اللبناني نفسَه، بقدراته المحدودة، وحيداً في المواجهة».
يحصر عبد القادر الاحتكاك بين «حزب الله» و«داعش» على خط الحدود اللبنانية – السوريّة وتحديداً في البقاعين الأوسط والشمالي، ولا يقلّل من أهمّية بعض العمليات الإرهابية التي قد ينفّذها «داعش» في العمق الشيعي.
لكنّ عبد القادر الذي أجرى بحثاً علميّاً عن التنظيمات الإرهابية والأصولية في لبنان، يُطَمئن إلى أن لا «داعش» في لبنان. «هناك بؤَر أمنية تأثيرُها محدود. أمّا الخطر الأساسي فيأتي ربّما من اختراق اللاجئين السوريين في لبنان من تنظيمات عدّة وليس من «داعش» فحسب.
ما هو واضح اليوم أنّ المواجهات بين «داعش» و«حزب الله» ستستمرّ في المستقبل القريب، وربّما تأخذ أوجُهاً عديدة في أكثر من مكان.