باتت التفاصيل اليومية التي يعيشها اللبنانيون مأسوية الى درجة لم يتوقّعها أكثر العقول شراً، بدءاً من مصرف لبنان والحاكم بأمره رياض سلامة وجمعية المصارف وجوقة المطبّلين والمزمّرين له في لبنان والخارج، وصولاً الى القوى السياسية والأمنية التي لا تزال تؤمّن الحماية له. وإذا بات اللعب على حافة الهاوية مكرراً في السياسة، فإن سياسة الاستبداد التي يمارسها حاكم مصرف لبنان من دون أن يرفّ له جفن، تجاوزت الخطوط الحمر. ورغم أن الانفجار الشعبي تأخّر كثيراً في وجهه بسبب حماية تؤمّنها له القوى الأمنية والسياسية، إلا أن معلومات تتحدث عن أن ما يرد الى رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب والرئيس المكلف نجيب ميقاتي ورئيس الجمهورية ميشال عون، أعطى إشارات بالغة السوء عن الاحتمالات التي يذهب إليها الوضع، بعد تراجع سلامة عن كل التعهدات التي قدّمها منذ أشهر، وصولاً الى رفع الدعم، ضارباً بعرض الحائط حياة الناس.
ورغم أن القوى المعنية تحاول إلهاء الناس بعملية التفاوض على تأليف الحكومة، مع أن أحداً غير مقتنع بجدواها، فإن ما يذهب إليه لبنان أخطر بكثير ممّا يمكن توقّعه، وفق جملة معطيات تتحدث عنها أوساط سياسية بين لبنان والخارج:
أولاً، الكلام الواضح أن ثمة طرفين يعرفان تماماً ما يريدانه في إدارة ملف الأزمة اللبنانية، هما حزب الله والعهد، وطبعاً معه التيار الوطني الحر. يدرك الطرفان تماماً ما يريدانه، سواء سلباً أو إيجاباً، أرضى الأطراف الأخرى أو لم يرضها. وإذا كان السيناريو المتوقّع يذهب الى عدم تأليف حكومة وعدم إجراء انتخابات نيابية، وصولاً الى طرح تعديلات تتعلق باتفاق الطائف، فإن ضعف القوى السياسية الأخرى وتراجع حضورها السياسي كفيل بإعطاء حزب الله والعهد ورقة رابحة. فكلا الطرفين لا يستسيغان الطائف، والتعديلات الدستورية باتت تطرح عند كل مناسبة، كما المطالبة بتعليق مواد دستورية كما فعل الرئيس سعد الحريري، في لفتة خطرة حين يصبح الدستور لعبة بين أيدي القوى السياسية. وهذا المسار يمكن أن يترك بصمات واضحة في الأشهر المقبلة. والطرفان اللذان يعرفان ما يريدان، ينجحان في تثبيت خياراتهما الاستراتيجية والاقتصادية (والتوجّه شرقاً)، بما يمكن أن يصبح أمراً واقعاً في ظل التدهور المالي الذي تتشارك المسؤولية عنه القوى التي أمّنت، ولا تزال، الحماية لسلامة وشركائه، لأن جزءاً أساسياً من الأزمة يتعلق بما يفرزه أداء حاكم مصرف لبنان ضد اللبنانيين، وليس فقط أداء حزب الله والعهد في ملفات ميثاقية وأساسية تتعلق بمصير لبنان.
ثانياً، يتأتّى ضعف القوى الأخرى من عدم وجود خطة عمل وسيناريو واضح عن مصير لبنان في المفاوضات الإقليمية والدولية، كما من غياب أي رؤية جامعة على غرار ما جرى بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. يمكن استطراداً ملاحظة الأداء العام منذ تكليف الرئيس سعد الحريري، وصولاً الى اعتذاره، وما فعله تيار المستقبل في ملف انفجار المرفأ ورفع الحصانات. هناك من ينسب الى النائبة بهية الحريري مسؤولية الغرق في هذا الملف، الى جانب الرئيس نبيه بري، عملاً بمقولتها الشهيرة عام 2005: «لن نقول وداعاً سوريا، بل الى اللقاء». لكن بغضّ النظر عن مسؤوليتها أو مسؤولية الرئيس الحريري، فإن مجرد قيام تيار المستقبل بهذه الخطوة يكون قد سحب نفسه من الجو الذي كان يفترض أن يقوم في شكل جماعي من تكتل عريض، على غرار عام 2005. في وقت تتراجع فيه القوى السياسية الأخرى عن فرض برنامج عمل كفيل بأن يجعلها تحضر على الأقل على الطاولة داخلياً وخارجياً. وهذا غير متوافر حالياً، والدول التي تريد رعاية أي ملف، لا بد أن تتعاطى مع الأكثر حضوراً. علاقات فرنسا بإيران، تراجع السعودية عن أي دور في لبنان، ولامبالاة الولايات المتحدة، مشهدية تضاف الى عجز القوى المحلية عن أن تكون لاعباً أساسياً لا مجرد متلقٍّ لتعليمات خارجية.
ثالثاً، تتوقّع الأوساط المتابعة محلياً وغربياً اعتذار الرئيس نجيب ميقاتي، في ضوء تعذّر التفاهم مع رئيس الجمهورية، لكن على قاعدة قبض ثمن الاعتذار في الشارع السني، لا يمكن إلا أن يضاعف حالة الانهيار السياسي بالمعنى الشامل. فنيّة رؤساء الحكومات السابقين في إحراج رئيس الجمهورية ميشال عون بالإصرار على عقد لقاء الرئيس المكلف دورياً منذ اليوم الأول لتكليفه، لا تترك أثراً في القصر الجمهوري. عون لا يُحرج في المسائل الشكلية أو الجوهرية. وهي ليست المرة الأولى التي لن يتراجع فيها عن أي استحقاق مصيري، منذ التسعينيات وإلى اليوم، وحتى الى نهاية عهده وما بعده. لكن الاعتذار لن يكون له المفعول نفسه في الإطار العام، وخصوصاً أن ما جرى ميثاقياً، أو بعد اعتذار الرئيسين المكلفين مصطفى أديب ومن ثم الحريري، لم يساهم في خلق بيئة حاضنة مدروسة لمواجهة الاستحقاقات المقبلة، علماً بأن الحريري لم يخض المعركة إلا في وجه عون، والأرجح ان ميقاتي سيقوم بالأمر نفسه. وهذا يعزز فرضية غياب الإطار المعارض الجامع، ولا سيما في ضوء اتصالات جرت لتوسيع قاعدة المقاطعين للاستشارات مجدداً إذا اعتذر ميقاتي، وهو ما لم يلاقِ تجاوباً من «حلفاء» للمستقبل، لكنه يطرح في المقابل مستقبل الزعامة السنية التي تتأرجح، بعدما صارت واقعة بين مجموعة تناقضات محلية وإقليمية.
رابعاً، يخوض التيار الوطني معركة الحكومة من فائض القوة. لا يبدو التيار ممتلكاً لأي استراتيجية واضحة في خوض معاركه تلو الأخرى. ما حصل من استفاقة في ملف الكهرباء منذ يومين، لتيار يتسلّم وزارة الطاقة منذ أكثر من عشر سنوات، ولا يجد أمامه سوى القوات اللبنانية لشن معركة ضدها، هو التفاف على أن حقيقة الواقع أن أزمة الكهرباء والمازوت ستفجر الوضع، فجرت محاولة احتوائها مسبقاً. والمهزلة الأخيرة الاعتراضية على أداء سلامة الذي كان التيار قد جدّد له ومنع أخيراً الإطاحة به، وخصوصاً بعدما مرّر له الكثير من الملفات في النفط والكهرباء وغيرهما، ليست سوى استثمار رخيص لأوجاع الناس وحاجاتهم وفقرهم. وهذا يدل على أن التيار لا يملك سوى استراتيجية ربح مزيد من الوقت والالتصاق أكثر بحزب الله. بخلاف كل ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع من خلافات موضعية في ملف الحكومة أو رفع الحصانات أو رفع الدعم كعناصر استثمارية مرحلية، فهو في المحصلة يملك ورقة أساسية، تؤمن له فرصة البقاء في مقدم الحدث والمفاوضات. يمكن لذلك فهم سياسته في عدم الذهاب بعيداً في ملفات شائكة أو حساسة، كما حصل في التباس موقفه من كلام البطريرك مار بشارة بطرس الراعي والردود عليه. في نهاية المطاف، يتصرف على قاعدة أن ما يقبل عليه لبنان سيبقيه لاعباً أساسياً في الاستحقاقات المقبلة، وأن الآخرين متأخرون عنه أشواطاً. لكنه وإياهم يتساوون في أن حالة اللبنانيين الاجتماعية والمالية والصحية لا تعنيهم من قريب أو بعيد، رغم كل التمثيليات الفاشلة نصاً وأداءً.