هناك لعبة أوراق مستورة في ملف تأليف الحكومة. فحتى اليوم، ليس واضحاً إذا كانت هناك رغبة في الاستعجال لدى الرئيس سعد الحريري، فيما بدأ البعض يتحدث عن نيّة الرئيس ميشال عون استخدام ضغوط «نوعية»، ترتكز إلى تفسير معيّن للدستور، ولم يسبق أن استخدمها الرؤساء السابقون بعد الطائف، بهدف استيلاد الحكومة سريعاً.
المشكلة، كما تقول قوى بارزة في 8 آذار، هي أنّ الحريري حصل على «وكالة» التكليف من رئيس الجمهورية ووضعها على الرفّ، وبدأ يضيّع الوقت، وكأنه ينتظر حدوث أمر ما يسهّل له تأليف حكومة بمواصفات تريدها بعض القوى الإقليمية والدولية التي تمون على الحريري.
وثمة من يقول، داخل هذه القوى، إنّ محاولات 8 آذار لـ»تحميس» الحريري كي يحسم ملف التأليف في موعد «منطقي» قد باءت بالفشل، وظهر كأنّ الرجل لا يمتلك قراره فعلاً، وأنه يماطل لتأتي اللحظة التي تناسب القوى الخارجية، فيؤلّف الحكومة. وما تمسُّك الحريري بالدفاع عن حصص حلفائه في 14 آذار والنائب السابق وليد جنبلاط سوى إثبات لذلك.
وفي تقدير 8 آذار أنّ الحريري يريد استغلال الثغرة الدستورية، بعدم وجود مهلة زمنية إجبارية للتأليف، ليحافظ على حال المراوحة أشهراً طويلة، بناء على طلب بعض القوى الخارجية، لأنّ المرحلة المقبلة ستشهد ضغطاً عالي المستوى على إيران، وتالياً على «حزب الله»، تمارسه الولايات المتحدة وإسرائيل، ما يؤدي إلى تغيير توازن القوى القائم في الداخل اللبناني.
وتقول مصادر في 8 آذار إّن الحريري والقوى الحليفة من 14 آذار والنائب وليد جنبلاط يرغبون في تجاوز الواقع الذي فَرضته الانتخابات النيابية الأخيرة والغالبية التي أفرزتها، وهي غالبية داعمة لـ»حزب الله». والرهان يتركّز خصوصاً على سَعي إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى زيادة الضغوط على إيران و»الحزب» في الشرق الأوسط، ورفع مستوى العقوبات عليهما في المرحلة المقبلة.
وفي هذا السياق، تولي المصادر أهمية لِما سيتقرّر اليوم في هلسنكي، بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على صعيد العديد من ملفات الشرق الأوسط، وتحديداً سوريا ومستقبل الحضور الإيراني فيها.
فالأميركيون يشترطون على بوتين أن يُضعِف دور إيران، في مقابل إطلاق يده في دعم الرئيس بشار الأسد. وسيكون للقمة تداعياتها في ما يتعلق بالحضور الذي يتمتع به حلفاء إيران المحليون في العديد من دول الشرق الأوسط، بدءاً من اليمن والعراق وانتهاء بلبنان.
وفي تقدير المصادر أنّ ضغوط الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية فشلت في مَنع حيازة «حزب الله» وحلفائه للغالبية في الانتخابات النيابية الأخيرة، إلّا أنّ الرهان الأميركي والسعودي بقي قائماً على تحوّلات تطرأ داخل هذه الغالبية تؤدي إلى تفكيكها.
وفي اعتقاد الأميركيين أنه من الخطأ التعاطي مع كل حلفاء «حزب الله» وكأنهم يلتزمون كل مواقفه تلقائياً، ولا سيما «التيار الوطني الحر» الذي أثبت في محطات عدّة تمايزاً عن «الحزب». وثمة مَن يرى أنّ «التيار» يمكن أن يكون أكثر استقلالاً سياسياً إذا ساعدته المناخات الإقليمية والدولية على ذلك.
وإذا كان صحيحاً ما تقوله قوى 8 آذار عن أنّ الحريري يراهن سياسياً ويُماطل في التأليف من دون الارتباط بأفق زمني محدّد، فهذا يعني أنّ الرجل يلعب عند حدود المنطقة المحظورة. وهذا ما يفسّر الغضب الذي بدأ يبرز في أوساط هذه القوى، وما يرشح عنها من اتجاه إلى الحسم.
وبدأ يُسمَع في أوساط 8 آذار كلام مَفاده: على الحريري أن يستولد الحكومة قريباً، ولو بعملية قيصرية. ولدى السؤال: هل يعني ذلك التهديد بما يشبه 7 أيار أخرى، تقول الأوساط: سنبذل كل ما يمكن، في السياسة، لتشكيل الحكومة. فالوقت لا يعمل لمصلحتنا، وهناك استحقاقات ومخاطر خارجية كبيرة لن نسمح لأحد بأن يراهن عليها من أجل تنفيذ «أجندة».
وتتجلّى ملامح الضغط المتوقع بالتلويح بعريضة نيابية تحمل تواقيع الغالبية النيابية، وتدعو الحريري إلى حسم خياره بالتأليف أو الاعتذار، وتدعمها دراسة دستورية يستعين بها رئيس الجمهورية وتبرِّر قيامه باستشارات نيابية جديدة تؤدي إلى تسمية بديل من الحريري.
وتتجلّى الضغوط أيضاً بحملات سياسية وإعلامية تستهدف الحريري وتيار «المستقبل» وقوى 14 آذار وجنبلاط، تحت عناوين مختلفة، والعمل على تظهير شخصية سنّية بديلة للحريري في رئاسة الحكومة.
فهل هذه الضغوط، التي بدأت قوى 8 آذار تمارسها أو تلوّح بها، تستهدف فعلاً دفع الحريري إلى الاعتذار؟
المتابعون يعتقدون أنّ الجميع يناور تحت سقف الممنوع. فالحريري نفسه تعلّم من التجارب الكثيرة التي مرّ بها، وهو يعرف أن الرهان على تحوّلات إقليمية ودولية تؤدي إلى إحداث تبديل في توازنات القوى الداخلية، أمر بعيد المنال. وفي أفضل الأحوال، التغيير الداخلي يستلزم وقتاً طويلاً ولا يمكن الرهان عليه في عملية تأليف الحكومة.
ولذلك، يدرك الحريري أنّ المماطلة في التأليف لن تبدّل في المعطيات والتوازنات، لكنه يمضي فيها لكي يوحي للقوى الإقليمية والدولية الداعمة له بأنه «ليس خارج إرادتها». وكان لافتاً أن يتمايَز الفرنسيون عن الموقف الأميركي بتأييدهم قيام حكومة الأكثرية، وإن تكن أكثرية حليفة لـ»حزب الله» وإيران.
والمثير أنّ «حزب الله» وحلفاءه يعرفون أنّ الحريري ليس في صدد خوض المواجهة معهم، وأنه يراعي الضرورات الخارجية. ولذلك، هم مطمئنّون إليه في العمق. وعندما يصعّد «الحزب» وحلفاؤه ضد الحريري سياسياً وإعلامياً، فإنما يمنحونه المبرّر لكي يواجه هذه الضغوط الخارجية ويستعجل التأليف.
وفي الموازاة، يدرك «الحزب» وحلفاؤه أيضاً أنّ ضغوطهم على الحريري تبقى محدودة. فليس في مصلحتهم اليوم تبديله في موقع رئاسة الحكومة، لأنه يوفّر لهم تغطية داخلية وخارجية جيدة. كما أن أي خطوة استفزازية لدفعه إلى الاعتذار، ولو تحت ستار دستوري، يمكن أن تثير عاصفة ذات طابع طائفي ومذهبي لا يرتضيها رئيس الجمهورية ولا «التيار» ولا «الحزب».
إذاً، الجميع يقوم بالمناورة من باب الواجب، لا أكثر ولا أقل، ويلعب تحت الخط الأحمر فلا يتجاوزه. وفي النهاية ستولد الحكومة عندما يأتي الضوء الأخضر من الخارج، ويطمئنّ الجميع إلى أنهم وَفوا بتعهداتهم أمام القوى الداعمة لهم.