تشكل المقارنة بين مشروعين، ومستقبل حزب الله وواقعه، مادة أساسية في النقاشات السياسية، وسط ارتفاع حدة الإسلام الأصولي وانتشار العمليات الانتحارية في أوروبا
في خضم الانقلابات الجذرية التي تعمّ المنطقة، والعمليات الارهابية التي تشهدها أوروبا، يذهب الوضع اللبناني إلى مزيد من التطبيع للحالة الداخلية، على خلفية التعامل مع الملفات العالقة، من خلال تأجيل البحث فيها وإبقاء القديم على قدمه. إذ لا يبدو أن أي فريق يرغب في الوقت الراهن في إحداث تغييرات جذرية في المشهد الداخلي ولا افتعال خضات سياسية غير مبررة، في انتظار بلورة أكثر وضوحاً لمصير هذه التحولات.
لذا تدور الملفات في حلقاتها الاعتيادية: ملف رئاسة الجمهورية يقبع في الأدراج الإقليمية والدولية، رغم محاولات محلية محدودة الإطار والتوجه، ولقاءات سياسية بقيت من دون ترجمة عملية. ملف العقوبات الأميركية المالية على حزب الله يطبق بعيداً عن التداول الإعلامي، وقانون الانتخاب يراوح مكانه، فلا يتحدث أي طرف في صالوناته السياسية عن إمكان إحداث خرق أساسي فيه، مع ارتفاع حظوظ بقاء قانون الستين. والحكومة التي تواجه فشلها في إدارة الأزمات المتلاحقة، تحولت مادة للتندر أكثر مما هي ملجأ حقيقي لتجنيب لبنان ترددات الهزات الإقليمية المجاورة.
وسط هذا المشهد، تعود النقاشات السياسية مجدداً نحو تمدد الإرهاب الأصولي ونجاح التنظيمات الأصولية في التغلغل في أوروبا، وإلى لبنان عبر الحدود، وحتى في بقع أمنية محددة في الداخل، وموقع حزب الله في المعادلة الإقليمية التي تعيش حالة نمو مطّرد، لكنها لا تزال عاجزة عن تحقيق نجاحات ترجح كفتها.
لا شك في أن موجة الإرهاب الأخيرة، التي ضربت مناطق مختلفة في العالم، واستهدفت أوروبا خصوصاً، غذّت النقاشات حول هذا التحول في العمل الأصولي وأهدافه الطويلة الأمد. ثمة خشية مكبوتة من آفاق هذا التطور الأصولي وانتشاره خارج الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية» ونوعية التنفيذ والأهداف والغايات. ومرد الخشية يكمن تحديداً في انعكاس ذلك على الوضع اللبناني، حيث يمكن بعض الساحات الداخلية والأوساط القريبة من الخط الأصولي، أن تتماهى مع هذه النجاحات التي يحققها التطرف الإسلامي في عملياته من أورلاندو إلى تركيا والعراق وفرنسا، وأخاف دول العالم من أن تكون أهدافاً طبيعية لهذا التطرف. ثمة تساؤلات طرحتها شخصيات فاعلة في قوى 14 آذار على رئيس حكومة سابق، أبرزها: كيف يمكن أن لا تقوم أي تظاهرة في لبنان رفضاً للإرهاب الذي يستخدم راية الإسلام السني؟ وكيف يمكن ألا يخرج متظاهرون في العالم العربي للتنديد بما يحصل من عمليات إرهابية باسم الإسلام في أوروبا؟ فالسكوت اللبناني والعربي عما يجري أوروبياً وعالمياً، يثير ريبة من احتمالات وتفسيرات تعطى لتحركات قد تستثمر أي حدث أمني يقارب ما يحصل في أوروبا، ولا سيما أن لبنان سبق أن شهد تفجيرات مماثلة، وكان آخرها تفجيرات القاع الانتحارية، ما يضعه أيضاً على خريطة عمل هذه التنظيمات، وسط كلام لفاعليات شمالية عن ارتفاع أعداد الذين يلتحقون بهذه التنظيمات.
وبين الكلام التقليدي عن الإسلام المعتدل والإسلام الأصولي، يكمن جوهر النقاش المزمن، وسط أجواء لا تشجع كثيراً على التفاؤل حين ينكفئ الإسلام المعتدل عن خوض المواجهة الحقيقية داخلياً بدل الغرق في معارك إعلامية وسياسية جانبية حول الدين والانقلاب العسكري في تركيا، وقضايا تتحول مجرد عناوين للمبارزة فقط كقضية النازحين السوريين. وكذلك حين يتحول النقاش، ولا سيما في بعض الأوساط المعارضة لحزب الله، إلى مقارنة الاحتمالات حول تجاوب شريحة من المجتمع اللبناني مع تطلعات هذه التنظيمات وعدم تعاطفها مع ما يحصل في أوروبا، ودور حزب الله في سوريا، ما من شأنه تأجيج هذه المشاعر، في ظل الكباش الحاد إقليمياً بين مشروعين، وبين تمدد سني مطّرد وتوسع إيراني شيعي من العراق إلى سوريا ولبنان.
ومناقشة وضع حزب الله تبدو في هذا الإطار مكمّلة للمشهد السابق، من باب قراءة مستقبل هذا الحزب لبنانياً، في ظل تطور حرب سوريا والحرب الدولية على الإرهاب والسعي الأميركي إلى تطويقه. ثمة من لا يرغب في تغليب كفة الحزب، في حرب دولية طاحنة لا صلة له بها، لا بل إنه يلقي الضوء على مسؤولية الحزب في تأجيج هذا الصراع الذي انتقل من «أرض الخلافة» إلى أوروبا والعالم. يقول أحد السياسيين ــ من دون أن يقلل من الأسباب الحقيقية والموضوعية لانطلاق «الدولة الإسلامية» ــ لو تجاوبت إيران وروسيا منذ أن بدأت حرب سوريا تأخذ مداها، مع مطلب إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، لكانت سحبت الأرضية الأساسية التي انطلق منها تنظيم داعش. لكن إيران التي تتفرج اليوم على العمليات الإرهابية في أوروبا، تحصر دورها بالدعوة إلى العمل معها لمحاربة «داعش»، مسلطة الضوء على ما يقوم به الحزب في سوريا لمنع خطر التنظيم على لبنان وغيره. فيما يتمسك معارضو الحزب بالمقارنة بين خطر التنظيم والقبضة «الحديدية» للحزب التي يمسك بها بالوضع الداخلي من دون أن يواجَه بأي مقاومة. لا تنحسر المخاوف المستمرة من واقع الحزب في سوريا وبعدها، وارتداد عودته إلى لبنان سياسياً. ومع ذلك هناك اعتراف ضمني بأن النظرة تغيرت في السنوات الأخيرة إلى وجود الحزب في المناطق التي يغلب فيها حضوره، رغم تزامنه مع ارتفاع نسبة مشاركته في سوريا وارتداد ذلك سلباً على لبنان. ثمة مشاهد من الحياة اليومية تبدو للوهلة الأولى هامشية في ظل المخاوف الكبيرة، لكنها تصبح مهمة في قراءة الأرض، بعيداً عن الاجتهادات السياسية والقوة الإقليمية التي ترعى وجود الحزب، وتورطه في سوريا. هل يمكن أن يتبدل المشهد بين سنة وأخرى، فتصبح مهرجانات بعلبك آمنة (ولو بعد تفجيرات القاع)، لأن بيئة الحزب تحيط بها، وهي كانت لسنوات مكاناً غير آمن لإقامة المهرجانات التي أُلغيت مرة بسبب حرب تموز، ولاقت أحياناً اعتراضات محلية؟ وهل يصبح الجنوب بشواطئه ومناطقه مسرحاً طبيعياً آمناً، وإن اعتبر البعض أن القرار 1701 هو الذي أعاد الازدهار إليه، في وقت تشتد فيه الهجمة على الحزب دولياً وإقليمياً؟ لا يمكن التقليل، حتى بالنسبة إلى أولئك الذين لا ينسون مرحلة صعود الحزب وبعض ترجماته على الأرض، من أهمية مشاهد مماثلة، حين تتنوع هوية العمليات في أوروبا وتتضاعف وتيرتها، وحين تصبح المقارنة بين مشروعين يترجمان فكرهما في الدرجة الأولى اجتماعياً، قبل أن يتحول سياسياً بالمطلق. وتجربة أوروبا مع بعض المجتمعات المهاجرة والنازحين الجدد خير مثال.