IMLebanon

«حزب الله» وعناوين جديدة.. برسم الموت

من وراء الحدود المُثقلة بالأوجاع والهموم، تصلهم رسائل متقطعة من أحباب رافقوا العمر على مرّ السنوات قبل أن يتركوه على غفلة من تعب الإنتظار وكبوة العين. رسائل ممهورة بجهل المصير ومجبولة برائحة الدماء، فيها تشتعل كلمات الشوق إلى الإبن والأب والشقيق والصديق. من قلب هذا الوجع وعلى الطريق الفاصل بين الحياة والدنيا، يسير عناصر «حزب الله» إلى حتفهم الأخير في سوريا، فيتحولون إلى كبش فداء جماعي لا تترك التضحية به أثراً، إلا في نفوس الأهل الذين يُحاول الحزب في إعلامه، تجميل صورة رحيل أبنائهم، مرّة على طريق «الواجب الجهادي»، ومرّات على لفظ حياة الدنيا واستبدالها بالآخرة.

مع كل اشراقة صباح ثمة من يزف أخبار الغائبين عن الأسماع والأبصار. الموت يطرق الأبواب مجدداً ويرسم ملامح الحزن والقهر على وجوه ما فارقها الحزن منذ سنوات. إجازات من الحياة تُمنح عشوائيّاً لشُبّان لم تُنصفهم الحياة في بلد التقاعس فيه عن تحمّل المسؤوليات، مبدأ تُكرّسه أعراف الدويلات المُتّكئة على أوجاع الدولة وفيه يُمنح المسؤولون عن الخراب والأذى، حصانات أحزاب رهنت هويتها وشبابها وحتى طائفتها، خدمة لمشاريع خارجية لا تستقيم معها التسويات إلا على دماء المُغرّر بهم ماديّاً ومذهبيّاً وفكريّاً وعقائديّاً.

عمليات التشييع لا تنتهي وكأنها نذر على الأهالي وجب عليهم الإيفاء به بعد سنوات من التعب والشقاء الممزوجة بالأحلام الوردية والتفاؤل بقادم الأيّام، والمؤلم أن التضحصية مُكلفة وأن الضحايا لا يُقدرون بثمن فهم «زينة الحياة» على الرغم من كثرتهم. الحزب خسر حتى اليوم في سوريا، ما لا يقل عن ألفَي عنصر آخرهم ابن بلدة بريتال الشاب مهدي سليمان يونس الملقب بـ «حيدر» وابن بلدة الكواخ قضاء الهرمل، الشاب صالح محمد الهق، ويُضاف إلى هذه القائمة، مئات الجرحى بعضهم تصاحبت آلامهم والأدوية المُخدرة من جرّاء خطورة الإصابات وصعوبة معالجة العديد من الحالات. وها هي مستشفيات الحزب، وتحديداً مستشفى «الرسول الأعظم»، شاهدة على الأوجاع والجراح على الرغم من محاولات التعتيم التي تُفرض على العديد من هذه الحالات، تؤكد عمق الأزمة واستحالة الخروج منها أو أقله وقف النزف الحاصل.

ومن الواضح أنه لم تعد هناك مشكلة لدى «حزب الله» في أن يُعلن يوميّاً، سقوط عدد من عناصره في سوريا أو في أي مكان في العالم، طالما أنهم يسقطون تحت شعار «الواجب الجهادي» الذي يُحتّم أو يفرض على كل منزل أو عائلة أن تتقبل مصابها بفرح ورضا وبـ «أسمى آيات التبريكات» بالإضافة إلى تقبّل التهاني لأن الموت «عادة» والكرامة تتمثل فقط بـ «الشهادة». وفي هذه الأحوال تتحوّل الحياة كما الموت، إلى رهن إشارة من قيادة تبرع في تفصيل الأكفان والنعوش بمقاسات متعددة ومختلفة تتمدد في داخلها أجساد تعبت من التنقل على جبهات الموت، فراحت تُنشده غناءً «وداعاً أمي وداعاً امي، لن تريني بعد هذا اليوم».

لعناوين الصحف اليومية ومقدمات النشرات التلفزيونية، عنوان وحيد: عناصر «حزب الله» مجدداً إلى واجهة الموت. عمليات التشييع أصبحت سمة لازمة تُرافق بيئة الحزب في حياتهم اليومية. لا تحمل الأسماء أهمية بالغة لمعرفة حجم المأساة ولا الأسباب التي حملت أصحابها على ركوب سفينة الموت جماعة وأفرادا. وحدها الأهمية أو ربما الخطورة تكمن في «أدلجة» طائفة بأمها وأبيها، على تطويع النفس للقتل والقتال تحت رايات خطّتها أيادٍ فاقت «الحجّاج» دهاءً كُرِّس للقتل والدماء، وعنونت رحلة الموت، بـ «الطريق إلى الجنّة» وزيّنت المنابر بالخطابات التجييشية والدعوات إلى تلبية النداء تحت اسم «الواجب الجهادي». أهمية الإسم والعنوان، تنحصر فقط في معرفة الجهة التي تستدعي إرسال النعوش إليها.

هي حقائق تسطع كعين الشمس وتتسرّب من ليالي الظلام، من غُرف «حزب الله» على الرغم من محاولات طمسه لها وإبقائها بعيدة عن مسمع وأعين الاعلام. بالأمس حاول نائب الأمين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، تسويق فكرة الموت لدى الحزب و»ثوابتها»، بعد الكشف عن عمر محمد مهدي أبو حمدان المقاتل ابن الـ17 ربيعاً الذي سقط في سوريا الاسبوع الماضي. أما الأسوأ في قضية أبو حمدان، فهو أنه وحيد والديه ولا تنطبق عليه شروط ارساله إلى جبهات الموت المجاني. وينبري قاسم إلى تبرير تلك «الجريمة» بالقول «إن الحرب التي تُشن علينا بأننا نأخذ الأطفال إلى المعركة حرب نفسية فاشلة»، مشيراً إلى أن في «فهمه» الاسلامي «التكليف يبدأ من البلوغ عند الصبي عندما يسجل عليه ويعاقب في الحلال والحرام». ما يعني بأنه لا مانع لدى قيادة الحزب، من أخذ الأطفال إلى الحرب حتى ولو في عمر الـ 15 عاماً..وما دون.

ويستمر في سياسة «اللاإقناع» والتي لم تعد تنطلي على أحد، مشيراً إلى «أننا أمام إلحاح المجاهدين والآباء والأمهات الذين لديهم أولاد وحيدون، قررنا أنه إذا وافق الأب ووافقت الأم بكتاب خطي، يمكن للوحيد أن يذهب ليقاتل. ومحمد نال الموافقة لأنه مصرّ من ناحية ولأن والديه شعلة نور وتقوى وهما حريصان على أن يفتحا الدرب إلى عطاءات التقوى»!، مضيفاً: «عادة يوعز للمجاهدين أن لا يوضع الوحيد عند أهله في المواقع الأمامية. وهذا جزء من الاحتياط أيضاً. لكن محمد تسلل إلى المواقع الأمامية بكل عشق وحب، فاستحق أن يكون أميراً ونموذجاً لكل الثوار والأحرار»!.

هي رحلات وجع لم تنتهِ منذ ستة أعوام. الموت يُحاصر شُباناً في مقتبل العمر يتحوّلون إلى وقود لحرب لن تُنصفهم في الحياة ولن تُصنّفهم «قديسين» بعد المماة. السلاح الذي يجتمع تحت أسباب أو مُسبّبات وجوده القاتل والمقتول، هو رهن حوارات سابقة ولاحقة قد تُفضي إلى أمور عدّة أقله تنظيمه بدقّة أو بطريقة مُحكمة لا يُمكن أن تتسرّب من خلالها شرارته إلى الداخل مجدداً. لكن المشكلة «العويصة» بل القاتلة، هي في إنتقاله إلى خارج الحدود واستخدامه تحت مسميات متعددة وملوّنة ينكشف زيفها على طريقة أن «الحبل القصير»، هو الوحيد الكفيل بفضح زيف الإدعاءات وكشف الحقائق المُخبّأة تحت رزمات من الشعارات ووعود النصر، والمعطوفة على مشاريع التوسع في المنطقة والهيمنة عليها بشتّى الطرق، بمجهود شبان هم في الحقيقة، ليسوا أكثر من عنوان لرحلات موت مجانية لا إمكانية أو فرضية للعودة منها.

من البقاع الى الجنوب فالضاحية الجنوبية، اخبار الموت تتوافد بشكل يومي عن شبّان في مقتبل العمر يسقطون خارج حدود العقيدة فيتحوّلون الى «نجوم» بعد أن يُتداول بصورهم على أجهزة الهواتف الخلوية قبل أن يعود وينطفئ وهجهم ويصبحوا مجرّد ذكرى وتحتل مكانهم صور لـ «نجوم» آخرين. يعود الوجع مُجدداً وتُستكمل الرواية بـ «أبطال» جُدد ساروا على طريق «الواجب الجهادي»، فيسكن وجعهم وألم فراقهم قلوب عائلاتهم وأحبّتهم، ووالدة نذرت عمرها لقطعة من قلبها سقطت خلف الحدود.