السيرك الأوليغارشي اللبناني عرض متواصل ومجاني.
في وضع محكوم أساساً، بتشمع السلطة التشريعية، وضعف السلطة الاجرائية، وضمور السلطة القضائية، يمكن لأي نفر أو «مرجع» أن يتولى صفة الإدعاء في فراغ، أو على الشبهة أو الرائحة أو القيل والقال، وأن يذهب كل نفر في ادعائه حيثما تقوده رغبته أو مصلحته. ويمكن للجميع في نادي النافذين «الخوشبوش مع القوانين»، أو «النادي الأوليغارشي»، أو اتحاد النوادي الأوليغارشية، مواصلة اللعبة التقاذفية للاتهامات الفسادية، والاستهلاكية لها، في أحضان سرّ يعلمه الجميع، وهو أنّ كل هذا للتسلية، ولتقطيع الوقت، دون أن يكون واضحاً الى متى ستستمرّ حال الشغور، والى متى سيظلّ الشغور طوراً متمادياً من تقطيع، أو تضييع الوقت، ليس أكثر.
مدهش، وطريف، كيف انتقلت اهتمامات هذا النادي، بجميع أركانه، من «الاهتمامات الاستراتيجية»، والبحلقة في حركة التاريخ والجغرافيا السياسية، الى هواية ممارسة الادعاء العام والخاص، في بلد معطل القضاء، وسيبقى معطلاً طالما لم يندفع تحريك شعبي ضاغط لتمكين القضاء من اصلاح نفسه بنفسه، ومن اتاحة المجال لنفسه ايضا، وبالضغط الشعبي اللازم في هذا المجال، من الاضطلاع بمهام السلطة التأسيسية، في مسائل محددة لكن مفتاحية، يأتي في أولها دور فاعل للمؤسسة القضائية، في انهاء حال الشغور الرئاسي، ما دامت المؤسسة التشريعية «غير ناوية»، والمجلس الدستوري غير نافع. من دون تحريك شعبي لاعادة احياء المؤسسة القضائية وتمكينها، من القضاء الدستوري حتى القضاء المالي، فإنّ كل حديث عن نهب وفساد في البلد هو شكل من أشكال التسلي بمصائب الناس، بداعي توعيتها وتنويرها. مثلما أنه، من دون انبثاق محكمة دستورية من هذا الجسم القضائي، تكون أولى مهامها تسمية رئيس مؤقت للبلاد، لتجاوز حال الكربجة، فإن الشغور الرئاسي مرشّح للذهاب أبعد وأخطر بكثير مما يتوقعه أكثر المتشائمين.
في الصيف الماضي، وعلى خلفية الاستهتار الرسمي بملف النفايات، انطلقت حركة احتجاجية لم تستطع التوسع، في غياب أحزاب جماهيرية جذرية، وأطر نقابية حية ومتصلة بقواعدها الاجتماعية المهنية المفترضة، بل لم تنجح في بلورة خطاب برنامجي مؤطر وموسّع لحركة احتجاجاتها، فكان ان تراجعت هذه الأخيرة، بعد أن غلب عليها مظهر «الافتقاد الى رؤية» بشكل سريع، و»حرقتها» بعض الوجوه «القديمة» غير المشجعة أبداً.
المضحك بعد ذلك، أن تكون الأوليغارشية نفسها، التي نهضت ضدها هذه الحركة الاحتجاجية تريد التنديد بها ككل، قد استعارت لغة مجموعات «بدنا نحاسب» و»طلعت ريحتكم» لتوظفها في حرب اعلامية داخلية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، بين أركانها. هذا، ويشعر عدد كبير من المتابعين بأنه عليهم «التموقع» في هذه الصراعات الفقاعية المحتدمة، كما لو كانت ذروة الصراع الوطني الاجتماعي التحرري، في حين أنّها «سلوى الكبار»، وعارض من جملة عوارض كثيرة، على الحال التي وصلت اليها التركيبة السياسية اللبنانية، بل البنية الاجتماعية اللبنانية منظوراً لها من فوق.
لكن هذا المستوى التهتكي للنظام السياسي والاجتماعي اللبناني منظوراً له من فوق، يحتمي بالموت السريري للجمهورية الثانية ومعادلاتها ومؤسساتها الدستورية، فيطمئن بذلك الى «استقراره»، رغم الشغور ورغم الانهيار العام لوظائف الدولة ومرافقها. وهنا مكمن المفارقة، التي تستكمل بمفارقة «حزب الله» كعدو داخلي لهذا النظام، وحامٍ لتركيبته في شكل عام، مع احتفاظه لنفسه بـ»الحق في البطش».
طبعاً، على صعيد «الذاتيات الطائفية» فان شحنة التقاذفات الاستهلاكية الأخيرة لها بعدها الطائفي والمذهبي بشكل أو بآخر، وهي في معظمها تريح حالياً جبهة «حزب الله»، وتفسّر الى حد كبير لماذا كان التحالف العريض بين الطوائف المشتكية من مشروع الهيمنة الفئوية الذي يقوده الحزب واهناً الى هذا الحد.