مَن واكبوا من كثب ما دار في لقاء الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله ورئيس “تكتل التغيير والاصلاح” العماد ميشال عون فهموا ان ثمة موضوعا اساسيا استحوذ على الجزء الأكبر من مناقشات هذا اللقاء النادر، وهو الوضع الاقليمي واحتمالات المرحلة المقبلة في ضوء التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لمنازلة تنظيم “داعش”. وأدركوا أيضاً أن الجنرال عاد من الضاحية في تلك الليلة إلى الرابية وهو على درجة عالية من الاطمئنان إلى القراءة المعمقة التي قدمها السيد لضيفه، مما بدّد هواجس وتساؤلات كانت لديه قبيل اللقاء.
وفحوى هذه القراءة أن الآتي والمرتقب لا يبعث اطلاقا على الخوف وان الرياح ستسير وفق ما تشتهيه سفن المحور الذي يمكنه الزعم انه كان مبكرا في استشراف خطر التطرف وأوعيته المتعددة في سوريا ثم العراق، وكان مبكرا في توزيع مهمات المواجهة على اركانه واضلاعه في ساحات سوريا والعراق ولبنان وامتدادا الى ساحات اخرى، وذلك لجبه هذا العدو الذي لا يقل ضراوة وشراسة عن العدو الاسرائيلي علما انهما يتقاطعان عند قاسم مشترك في الاهداف والمقاصد.
فلم يعد خافيا ان دوائر القراءة والتحليل لدى “حزب الله” امضت مدة وهي تمعن في قراءة ابعاد وخلفيات ما تنطوي عليه مرحلة التحالف الدولي – الاقليمي لمواجهة “داعش”، وبالتالي صار لديها تصور ناجز لهذا التحالف ولتداعياته وتأثيراته في لبنان خصوصا وبقية الساحات عموما، ومن ابرز معالم هذا التصور:
– انه لا يمكن الوثوق اطلاقا بما تعده واشنطن من تحالف لمنازلة حملة الارهاب المتنوع الصور والانماط، فهي رفدت بشكل او آخر هذا الارهاب المتعاظم من الاساس بحبل سرة أباح له التمدد في مناطق وتحقيق مكاسب في مناطق اخرى.
– ان العديد من الدول التي تبدي حماسة زائدة لتصدر حملة مواجهة ارهاب “داعش” ضالعة في شكل أو آخر في توفير بيئات حاضنة ومناخات ملائمة لنمو هذا الوحش الفالت من عقاله، فالارهاب اولا واخيرا ليس بيضة فقست من تلقائها في جرد قصي، بل انه وليدة تلاقح افكار وثقافات واستطرادا مصالح وحسابات معقدة وتاريخية.
– تكاد انقرة تكون نسيج وحدها وهي تفصح عن تشابك مصالح بينها وبين الارهاب، وترفض صراحة الانخراط وإن اعلاميا في الحملة الدولية لمواجهة الارهاب وهذا وضع يشكل ثغرة في جدار التحالف المولود لتوه ويقلل من اهميته.
– لا يمكن غض النظر اطلاقا عن ازدواجية المعايير والحسابات لدى واشنطن، وإن كانت تعلم انها باتت في حرب مفتوحة مع “داعش” فليس ما يمنع ان تبيّت اهدافا ومقاصد اخرى في المنطقة، مع الاشارة الى ان واشنطن حكمت سلفا على ضعف هذا التحالف لحظة اعلنت ان عمله سيقتصر على الغارات الجوية، وان “داعش” تنظيم يحتاج الى اكثر من 3 سنوات لكي يخف وهجه ويتوقف تمدده.
– ان واشنطن عدلت الكثير من خططها بالنسبة الى صورة التحالف تحت وطأة حسابات عواصم اقليمية محددة وهواجسها.
وبناء على كل هذه المعطيات تخلص الدوائر عينها في قراءتها الى ان التحالف الوليد هو عبارة عن تحالف الضرورة الذي لا فائدة كبرى ترجى منه، وهو اصلاً يرضي عنجهية واشنطن ورغبتها في اشعار من يهمه الامر بأنها ما زالت حاضرة في المنطقة ولم تغادر الميدان كما اشيع من جهة، وكذلك في إرضاء حلفائها الإقليميين ومراعاة هواجسهم الكثيرة من جهة اخرى، وبالتالي فإن هذا المعطى الذي تقيم عليه تلك الدوائر يدفعها الى اعطائه وصفا اجماليا فحواه ان ما بعد التحالف هو مثل ما قبله تماما.
وهذا يعني ان التحالف لم يكن ليحدث تغييرا دراماتيكيا وسريعا في الوقائع خصوصا لجهة ضرب داعش، ما خلا حماية بعض المصالح النفطية العائدة للشركات الاميركية. ومن البديهي الاشارة الى ان هذا الواقع لن يحدث تغييرا في اجندة مهمات المحور الذي يشكل “حزب الله” احد اضلاعه الرئيسيين. ولا تخفي الدوائر نفسها ان الحزب وحلفاءه رفعوا في المدة الاخيرة منسوب الحذر لديهم لحظة ان بدأت واشنطن تلهج برغبتها في فعل شيء لجبه الارهاب الآخذ بالتمدد انطلاقا من وسط العراق، لكن تطورات الاسبوعين الماضيين على وجه التحديد واجتماعي جدة وباريس بددت الى درجة كبيرة من هذا الحذر، وأثبتت مسألة أساسية وهي انه لا يمكن عقد اي رهانات على فعل ميداني سيقوم به التحالف من شأنه إحداث تغييرات في مسار الامور في العراق اولا، ثم في سواها من الساحات. وبناء على معطيات هذه القراءة اعادت الدوائر عينها الاعتبار للاستراتيجية المحلية والاقليمية التي كانت باشرتها منذ اكثر من عامين، وابرز بنودها:
أ – ان خطر الارهاب بأسمائه المتعددة هو خطر حقيقي ويمتلك آليات وفرصا ربما تتجاوز خطر المشروع الاسرائيلي، فالارهاب في حالة زخم ونمو لكونه يعتبر انه حقق انجازات سريعة وقياسية فيما المشروع الاسرائيلي في حال ضمور وعجز عن الحسم.
ب – ان التطورات الاخيرة اكدت بالدليل العملي صحة القرار الذي اتخذه “حزب الله” بالانخراط في الميدان السوري المشتعل في خطوة وقائية غايتها حماية الساحة اللبنانية من خطر الارهاب المفتوح الشهية على ساحات ومساحات عدة.
ج – ان الدوائر نفسها باتت على ثقة بضرورة المضي قدما في المواجهة في سوريا وعلى الحدود اللبنانية – السورية خصوصا البقاع ومناطق اخرى، وقد أدركت شرائح لبنانية واسعة ان خطر الارهاب لم يعد وهما أو تهويلا وان مواجهته لم تعد ترفا او قرارا اختياريا وكل الدعوات السابقة لحياد لبنان او تحييده فقدت قيمتها ولم تعد تجد من ينصت اليها بدليل ان ثمة قوى وشخصيات كانت حتى الأمس القريب تعتبر الحديث عن خطر “النصرة” او “داعش” وسواهما حديث خرافة او مادة تهويل وابتزاز واضطرت اخيرا الى تبديل خطابها.
د – ان “حزب الله” على استعداد ليبحث مع حلفائه وخصومه على حد سواء في استراتيجية وطنية حقيقية وجادة لجبه خطر الارهاب التكفيري او على الاقل لتغيير سلوكيات بعض القوى واولوياتها، خصوصا انه ما زالت غير جادة في التعامل مع الخطر التكفيري الداهم وتستثمره لتصفية حسابات ضيقة الافق.
واذا كان من ايجابية تسجل للصخب السياسي الذي لجأت اليه واشنطن بغية التسويق للحلف الدولي، فهي انه لم يعد بمقدور احد من الآن وصاعدا القول ان داعش هي من فبركة دمشق او من صنع طهران.