قد يكون غريباً، بالنسبة لكثيرين، الحديث عن فوائد استمرار التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر وتطويره. بعض أنصار الطرفين، وكل خصومهما، لا يرون فائدة من استمرار التفاهم. وتكثر التحليلات بأن وظيفة التفاهم انتهت يوم خرج الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا، ويتطوّع البعض ليشرح لنا أن الطرفين حصلا على مرادهما من التفاهم: استفاد الحزب من تحالف هزّ عرش الصيغة المناهضة للمقاومة سياسياً وطائفياً واجتماعياً، واستفاد التيار من دعم غير عادي لتحصيل حقوقه التمثيلية باسم الغالبية المسيحية في مواجهة سياسة العزل التي شنّها الآخرون منذ ما قبل عودة العماد عون من فرنسا.
لكن، لنكن عاقلين، وواقعيين أيضاً، فإن من لا يهتمون، من الطرفين، لبقاء التفاهم لا يزالون أقلية على رغم صوتهم العالي، فيما هناك غالبية تريد تعزيز العلاقة وتطويرها، خصوصاً أن كوادر من الجانبين شعرت بالرعب في الأيام القليلة الماضية مما رأته وسمعته، وهي كوادر مستعدة لمزيد من الانخراط في معركة تعزيز نقاط التلاقي والبناء عليها. ويجب أن يكون واضحاً أن مهمة الطرفين محصورة في وجهة الحوار الذي يستأنف اليوم بينهما، وهل هو لرفع السجادة وكنس كل الوسخ الذي دفن تحتها خلال 17 عاماً أم هو تنظيم لعملية افتراق قد تتم في لحظة واحدة أو على مراحل؟
والسؤال الأهم هو حول الأضرار الذي سيتسبب بها الطلاق بين الطرفين – إن وقع – ومصير ما تم بناؤه، ومصير حصيلة ضخمة النتائج السياسية والأهلية والنقابية والنيابية والاجتماعية التي لم تكن لتحدث لولا هذا التفاهم.
لنعد قليلاً إلى عام 2006. وقع عدوان تموز الإسرائيلي بعد أشهر قليلة على توقيع التفاهم. ولم يكن أي من طرفيه قد أنجز تفعيل الاتفاق على مستوى القواعد والأنصار والجمهور. لكن العماد عون اتخذ قراراً كان له تأثيره على مستقبله السياسي، قبل أن يكون له تأثيره على دعم المقاومة. ومن يقلّل من أهمية التواصل الاجتماعي بين جمهور الطرفين خلال العدوان، ينسَ أن الحروب الأهلية والاعتداءات الخارجية على لبنان، إضافة إلى تاريخ العلاقة الملتبسة بين الطوائف اللبنانية، كانت قد حفرت عميقاً إلى حد أنه لم يكن من الممكن تخيّل أن تبيت عائلة من الضاحية الجنوبية، مناصرة للمقاومة ولها خصوصيتها الدينية والمحافظة، في منزل عائلة مسيحية تعيش خوفاً من الآخر وتنظر إليه على أنه أدنى منها اجتماعياً ويسعى إلى تخريب لبنان الذي بُني من أجل المسيحيين.
من يقلّل من شأن الروايات عن فترة التواصل خلال عدوان تموز، أو يتجاهل الاختلاط الذي صار أمراً واقعاً في السنوات التي تلت، سواء على صعيد العلاقات الشخصية أو الاجتماعية أو التجارية بين البيئتين، لا يقدّر أهمية ما أنجزه التفاهم. ومن يعتقد، اليوم، أنه يمكن لأي من الطرفين طلب الطلاق أو الإقرار به من دون خشية على ما نتج من هذا الزواج، يكون فاقداً للبصيرة. وكل كلام عن أن حزب الله قوة متكاملة العدّة والأدوار والمؤسسات ولا تحتاج إلى أحد، هو كلام لا يعرف صاحبه أن المقاومة لم تربح يوماً أي حرب بسواعد مقاوميها فحسب، بل بالشرعية الأخلاقية والإنسانية والقانونية التي تستند إليها، وهي شرعية سهّلت على ميشال عون قول الكثير لإقناع قواعده بأن المقاومة ليست عدواً لهم. وفي سلوك التيار يومها، وبمعزل عن كل قراءة تقدّم المصالح على الأخلاق، كان هناك الموقف الذي له ثمنه، سواء على صعيد الجمهور المسيحي نفسه، أو على صعيد الحضور المسيحي في الاقتصاد والاجتماع وفي العلاقة مع الخارج.
والأمر نفسه ينسحب على التيار. فكرة الطلاق لا تمنحه عنصر قوة، لا داخل بيئته ولا لدى بقية اللبنانيين ولا في الخارج. صحيح أن التيار قوة حقيقية، صمدت لعقد ونصف عقد بعد إبعاد عون إلى فرنسا، وعادت لتظهر على شكل شارع كبير يوم الانتخابات النيابية عام 2005، لكن التيار كان سيكون معزولاً لو ترك الأمر لبقية فريق الطائف بنسخته الأميركية – السورية – السعودية – الفرنسية. والجميع يذكر كيف أن كل القوى المسيحية في 14 آذار، ومعها بكركي بقيادة البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير، ووليد جنبلاط وإرثه الخاص بجبل لبنان، ونبيه بري وتحالفه الوثيق مع التحالف الحاكم بعد انهيار الجمهورية الأولى، وسعد الحريري والجمهور السني الذي كان يرى في عون منافساً أساسياً على كيفية إدارة السلطة التنفيذية في الدولة… كل هؤلاء عملوا على عزل التيار. وحتى عندما ذهبوا إلى التحالف الرباعي مع حزب الله، إنما فعلوا ذلك متوهّمين بأن جرّ الحزب إلى السلطة سيبعده عن المقاومة، ولعدم ترك أي ثغرة يمكن لميشال عون أن ينفذ منها لكسر الحصار عليه.
وهذا ما حصل مع حزب الله عندما انخرط في تحالفه مع عون. فهو، أولاً، بات خصماً كاملاً لجنبلاط والحريري إضافة إلى خصومته مع بقية قوى 14 آذار، واضطر إلى صياغة علاقة دقيقة جداً مع بري الرافض لهذا التحالف ولنتائجه، وكان أول من استشرف الأمر عندما دافع الحزب عن حق التيار بالتمثل في مقاعد مسيحية في جزين ومناطق أخرى في لبنان، وعن حقه في حصته في الحكومات المتعاقبة. وهو عندما قرر تجذير تحالفه مع التيار الوطني الحر، تصرف بتهذيب مع حلفاء مسيحيين له كسليمان فرنجية وشخصيات أخرى، لكنه تجاهل عمداً كثيراً من الشخصيات والجهات المسيحية التي أخذت عليه أنه لا يرى من المسيحيين غير العونيين حلفاء أو متعاونين معه في أمور البلاد.
هي حالة نزاع استمرت إلى حين انطلاق معركة انتخاب رئيس الجمهورية بعد خروج ميشال سليمان من القصر الجمهوري. يومها اتخذ الحزب قراراً، استند فيه إلى أكثرية نيابية مقبولة وواقع محلي وإقليمي مناسب، وقال للجميع، من حلفاء وخصوم، إنه لا يقبل بغير عون رئيساً للجمهورية. وقاتل لمنع أي محاولة التفاف، من لبنانيين وأجانب، لإيصال بديل عن عون حتى ولو كان فرنجية نفسه. وقد كانت لهذا الخيار كلفته على المقاومة وحزبها. لكن الحزب كان يعرف أهمية الاستقرار العام عندما يحصل توازن منطقي على صعيد التمثيل في بلد يقوم على نظام طائفي مقيت.
ثمة تطور إضافي ساعد التفاهم في تعزيزه، ويتعلق بانفتاح مناطق على بعضها بعضاً بصورة طبيعية لا مفتعلة. فاكتشف الناس أنه يمكن العيش بطريقة واعية من دون وصاية أو رقابة. وقد راجت في تلك الفترة نكتة عن أن شبان الشياح الذين كانوا يدخلون إلى عين الرمانة ويتضاربون مع كل من يظهر أمامهم، باتوا بعد التفاهم يحتارون في مَن مِن أهل الرمانة معهم ومَن ضدهم.
هل يمكن تصور كيف ستكون عليه الأحوال في حال وقوع الطلاق القاسي في كل المناطق التي تتجاور فيها بيئتا الطرفين، في بيروت والشريط الحدودي وجزين والطريق الساحلي والبقاع الغربي أو الأوسط أو الشمالي. وهل يمكن تخيّل التدخلات الخبيثة التي يمكن لدول معادية أو قوى معادية أن تلجأ إليها لتوسيع الهوّة بين قواعد الطرفين لا بين قيادتيهما… وهل يمكن تخيل أوضاع أطر وتجمعات نقابية وأهلية واجتماعية فرضت على الطرفين التعاون والتمثيل المتوازن، وكيف يمكن أن تعود إلى حالات الانقسام الحاد وسط سعار اللغة الطائفية؟
وفوق كل ذلك، هل يمكن تخيل نتائج الطلاق بالنسبة لعواصم خارجية تسعى إلى تحقيق نتائج أقوى لحربها الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية على المقاومة وكل من يتعاون معها؟ وهل يمكن أن ندقّق في ما يعنيه أن يصبح المسيحيون جميعاً على خلاف أو عداء مع المقاومة، بينما هم يبحثون عن تسويات مع الزعماء المسلمين المستعدين لكل أنواع المحاصصة؟ وهل يمكن أن نتخيل كيف سيتطور المزاج المتطرف السائد اليوم في أوساط مسيحية كثيرة عن أن من الأفضل للمسيحيين أن يعيشوا وحدهم في حال لم تكن الشراكة على ذوقهم في بلد ينقص عدد سكانه من اللبنانيين يوماً بعد آخر؟
ثمة مخاطر كثيرة تحدق بالقاعدة الاجتماعية والسياسية للطرفين في حالة الطلاق. ومع أن الخلاف بينهما اليوم ليس سطحياً أو عابراً، فإن الحوار بمعناه الحقيقي، هو الذي يعيد تقييم كل ما حصل، ويتفق طرفاه على الإطار الأنسب الذي يحفظ العلاقة أو يطورّها. وثمة حاجة لأن يلعب حزب الله دوراً أكبر في احتواء حالة القلق التي تسيطر على التيار الوطني الحر، كما على التيار ألا يكرر خطأ الإدارة السورية للملف اللبناني سابقاً عندما كان يريد التمثيل المسيحي كما يتصوره هو، لا كما هو عليه فعلياً، وأن يتعامل بواقعية شديدة مع طبيعة توازن القوى كما هو عليه اليوم، لا كما يتمناه أن يكون.
من المفيد تذكير الجانبين بأن كلاهما واهم إذا نظر إلى الطلاق على أنه تحرّر من عبء العلاقة وتبعاتها، وهو وهم سيتبدّد عند أول استحقاق يُظهر فيه الخصوم والأعداء أنيابهم لالتهام ما بقي من هذا الكيان.