على نار حامية وقودها حرارة البارود المُلتهبة، يُسرّع «حزب الله» خطواته ودعواته، لإشعال نيران الحرب في جرود عرسال، تحت وطأة وضغوط المفاوضات الاميركية – الروسية المتلاحقة، وآخرها تلك التي جرت منذ أيّام بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على هامش قمة مجموعة العشرين في هامبورغ، وتحديداً في الشق المتعلق بوقف إطلاق النار في جنوب غربي سوريا، والتي يبدو أنها ذاهبة باتجاه «قص أجنحة» الوجود «الممانع» في سوريا. والأبرز أو ربما المفصل الأهم في هذه اللقاءات، ما تم تسريبه منذ أيام عن وجود توافق أميركي ـ روسي ـ اسرائيلي، على إخراج ايران وحلفائها من سوريا وتحديداً «حزب الله»، الذي أصبح يُشكّل «خطراً وجوديّاً» على اسرائيل خصوصاً في الجهة الشمالية.
وسط هذا التخبّط لقوى «الممانعة» في سوريا، والتي من الواضح أنه لم يعد أمامها سوى الركون والرضوخ إلى ما يُمكن التوصل اليه من خلال المفاوضات القائمة بين واشنطن وموسكو، ثمة سعيّ حثيث لنقل المعركة إلى مكان آخر لا يُمكن لهاتين الدولتين أن تؤثرا فيه أو أن يكون لهما كلمة فصل في ميدانه. ومن هنا كانت الوجهة هذه المرة، بلدة عرسال وجرودها تحت حجّة وجود جماعات إرهابية مع العلم أن الجيش اللبناني يتكفّل منذ فترة طويلة، بتوجيه ضربات متلاحقة لهؤلاء وتكبيدهم خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، لدرجة أن وجودهم أصبح يقتصر هناك، على مساحات صغيرة مُحددة لكن في بقع جغرافية متعرّجة قد يحتاج فيها الجيش إلى وقت غير مُحدد لإنهاء حالة وجودها هناك بأقل أضرار مُمكنة.
دعوات ومواقف متتالية ومتسارعة لحسم المعركة في جرود عرسال، يُطالب بها قادة «حزب الله» بشكل يومي، لدرجة يبدو فيها أن الحزب وحلفاءه، قد انتهوا من جميع المآزق التي أوقعوا أنفسهم فيها منذ بداية الحرب في سوريا وحتى ما قبلها، ولم يتبقَّ أمامهم سوى جرود عرسال ليُعلنوا إنتصارهم. وآخر هذه الدعوات جاءت أمس على لسان نائب رئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله» الشيخ علي دعموش بأن «من مصلحة كل اللبنانيين استئصال الإرهابيين من كل الأراضي اللبنانية لا سيما من جرود عرسال، ومن مصلحة اللبنانيين والنازحين السوريين تطهير مخيماتهم من الإرهابيين، لأنهم يشكلون خطرا على الجميع، على اللبنانيين وعلى السوريين». وقد وضعت مصادر ميدانية متابعة لملف جرود عرسال، دعوات الحزب هذه، في خانة محاولات التعويض عن الخسائر التي تكبدها في الآونة الاخيرة في تدمر والقنيطرة ودرعا بحيث سقط له في أقل من شهرين، ما لا يقل عن خمسين عنصراً بينهم ثلاثة من كبار القادة الميدانيين، في ما يُشبه سياسة «الحرباء» في التغطية والتعمية ودرّ الرماد في العيون، ضمن الخطة البديلة أو الخطة «ب» المعتمدة في كل معاركه الخاسرة.
من المؤكد أن الوضع في لبنان، غير مشابه على الإطلاق للوضع الذي كان قائماً في العراق وتحديداً في مدينة الموصل لا من حيث الواقع الجغرافي، ولا من حيث الثقل الذي كان يتمتّع فيه تنظيم «داعش» هناك قبل اندحاره، وذلك على عكس إدعاءات قادة الحزب ومن بينهم غملوش الذي شدد على «ضرورة إلحاق الهزيمة بداعش في لبنان كما هزم في الموصل». وهذه المقارنة بين جرود عرسال والموصل البعيدة كل البعد عن المنطق العقلاني، لا بد من احالتها على رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي سبق له أن أكد بأن «الأدلة التي قدمها العراق إلى الأمم المتحدة حول تورط سوريا في تفجيرات العراق دامغة، وأن انكار دمشق هو سياسة طبيعية فكل شخص يُدافع عن نفسه بالإنكار»، مضيفاً يومها: « لو ان ما يحدث في العراق من قتل وتفجير حصل في دولة مجاورة، ماذا سيقولون. قطعاً سيُحملوننا المسؤولية، فكيف إذا كانت المسألة، معسكرات وتدريب واعلام».
وضمن الخسائر التي يُمنى بها حلفاء ايران، تداول ناشطون أمس مقطع فيديو أعده مصور صحفي روسي نشرته قناة روسية، يظهر شراسة المعارك في محاور جوبر وعين ترما شرقي العاصمة دمشق. ويُظهر الشريط حالة الخوف والتخبط والذعر التي بدت ظاهرة على عناصر قوات الأسد. كما رصد مناشدات أطلقها العناصر عبر أجهزة اللاسلكي، إلى قادتهم الميدانيين، وأوامر للانسحاب من النقطة التي شهدت اشتباكات وحالات قنص واسعة، تخللها سقوط عدد من القتلى في صفوف قوات النظام. والأمر نفسه، ينسحب في درعا حيث تتواصل خسائر النظام و»حزب الله» و»الحرس الثوري الإيراني»، إثر محاولات سعي لتحقيق أي إنجاز يُمكن أن يعوّضهم عن الخسائر الفادحة التي تلحق بهم منذ شهر تقريباً، من دون أن يتمكنوا خلاله، من الثبات في حي أو موقع تمهيداً لتحقيق خطتهم العسكرية الرامية للوصول إلى معبر درعا القديم على الحدود السورية – الأردنية.
من بوابة الموت نفسها التي لاحقته في الداخل السوري لسنوات خلت، يحاول «حزب الله» النفاد إلى جرود عرسال في محاولة منه لكسب تأييد مذهبي واسع داخل بيئته علّه يُفلح في التعمية على الخسائر المرتفعة التي كان تعرّض لها في الأيام السابقة. فالحزب يُريد معركة على مقاسه يكون هو الآمر الناهي فيها وله القرار في فتحها وإنهائها. عملية «التنقيب» عن بقعة تمنحه ما يصبو اليه، لم ترسُ سوى في جرود عرسال من دون إغفال ما يُمكن أن تتعرض له البلدة في حال شذّت حربه هناك عن قواعدها كما اعتاد في جميع الحروب التي خاضها من قبل، سواء في الداخل اللبناني، أو في سوريا. وأكثر ما يجب التنبّيه اليه بحسب مصادر ميدانية، أن يقوم النظام السوري وبالتواطؤ مع الحزب، بإطالة أمد الحرب في الجرود، من خلال فتح المعابر من الجهة السورية مُجدداً، لتدفّق العناصر الإرهابية إلى الداخل. وبهذا سيتمكّن الحزب من اكتساب شرعية جديدة لحربه ضد الإرهاب وتشريع مماثل لسلاحه الذي بدأ يُثير موجات قلق على الأصعد كافة، إلا أن أياً من هذه السيناريوهات الشيطانية لن يُكتب له النجاح طالما أن الجيش اللبناني بالمرصاد لها، ومعه الغطاء السياسي اللازم والشعبي العارم..ولا سيما من أبناء عرسال والقرى الحدودية كلها.