يخطئ الذين يعتقدون أنّ تزايد أعداد المقاتلين الذين يخسرهم «حزب الله» في سوريا سيَدفعه إلى التراجع. إنّه مستعدٌّ لتقديم الآلاف، لا المئات، من شبابه لمنع هزيمة الرئيس بشّار الأسد. فالمسألة لا تتعلَّق بالدفاع عن حليف استراتيجي في دولة أخرى. إنّه الدفاع عن الأرض «المذهبية» الواحدة والشعب «المذهبي» الواحد… في الإمبراطورية المذهبية الواحدة!
في الأسابيع الأخيرة، خسرَ «حزب الله» مجموعة أخرى من نخبة مقاتليه في سوريا. في منطق الخصوم، وفي المفهوم الحقوقي، هؤلاء اللبنانيون يسفكون الدم في أرض غريبة، بعيداً عن أهلهم، وخدمةً لآخرين ولأهدافٍ غير لبنانية. إنّهم إذاً ضحايا لا شهداء.
ولكن، في منطق «الحزب» المعلَن، إنّهم يخوضون المعاركَ استباقياً في سوريا، لئلّا يضطرّوا إلى خوضِها في لبنان. فهزيمة الأسد في سوريا تعني هزيمةً للشيعة في لبنان، لأنّ السُنّة المنتصرين هناك (والذين يفترَض أنّهم تكفيريون) سيرتدّون إلى لبنان ليبدأوا عهداً من الهيمنة عليه، شبيهةٍ بالهيمنة التي مارسَها الأسد، مع انعكاس الأدوار والاستهدافات والمستهدَفين.
إذاً، يقول «الحزب»، إنّها المقاومة دفاعاً عن لبنان… ولكن استباقياً. وخوض هذه الحرب باكراً في سوريا أقلُّ كِلفةً من خوضها متأخِّرة في لبنان. لذلك، هؤلاء شهداء لا ضحايا.
وفي المقابل، هناك كثيرٌ لا يقوله «الحزب» عَلناً، وهو الأهمّ، لأنّه يكشف طبيعة الصراع. لكنّ ما قاله رئيس الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري قبل يومين عن ترابط الصراع من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن فطهران، لرسم خريطة الهلال الشيعي، من شأنه إيضاح الكثير.
لم تعُد خافيةً أسرار «حزب الله» مع الموت في سوريا عموماً، وفي البقعة المحاذية للحدود من طرطوس إلى دمشق خصوصاً. ولم يَعُد صعباً تقدير حجم التضحيات التي يبدو «الحزب» مستعدّاً لتقديمها في القلمون. فلا أحد يقبل الاستشهاد في أرض الآخرين ومن أجل قضاياهم. والشهادة هي أغلى ما يمنحه إنسان، ولا يفرَّط بها من أجل الآخرين.
وما يقال عن «الحزب» يقال أيضاً عن سُنَّة «داعش» وأخواتها. فهؤلاء أعلنوا صراحةً دولة الخلافة المفتوحة الحدود. وهذا يعني أنّ اللبنانيين الذين يقدِّمون حياتَهم في سوريا أو العراق أو اليمن، السُنّة منهم والشيعة، يَعتبرون أن الأرض التي يقاتلون فيها ويَقتلون ويُقتلون هي أرضهم، وأنّ أهلها أهلُهم. وهذا يطرح عميقاً جدَلية العلاقة ما بين الوطن والاستشهاد.
فلو كان قتال «الحزب» في سوريا هو مقاومة استباقية لقتالٍ كان سيقع في لبنان، فما شأن «الحزب» اللبناني بالحوثيين في اليمن، وما شأن «الحزب» اللبناني بشيعة العراق؟ والسؤال يُطرَح أيضاً على الجماعات السنّية هناك.
الجماعات التي تقودها العقائد الإسلامية، الشيعية والسُنّية، التي ترسِل مقاتليها إلى سوريا والعراق، تتنكّر للحدود بين الكيانات، وتَعتبر المسلمين أمّةً واحدة. وأمّا فكرتا الوطن patrie والوطنية patriotisme، فإنّهما مِن منشأ أوروبّي، وليس لهما اعتبار لا في عقيدة «الحزب» ولا عقيدة خصومه. والجميع يَعتبر الكيانات اصطناعية أوجدَها الاستعمار ويجب إسقاطها.
واليوم، تدور الحرب المذهبية بين الطرَفين العقائديَين، السنّي والشيعي، للسيطرة على البقعة إيّاها، والفكرة إيّاها: الأمّة الإسلامية. وفي مقابل «الهلال الشيعي» من إيران إلى لبنان، هناك اتّساع جغرافي لرسم «البدر السنّي». والصراع محتدِم بين الهلال والبدر. وإذ تدور الحروب بالعرب ودمائهم،
فإنّ آفاق الصراع يرسمها العثمانيون والفُرس، وفوقهم إسرائيل.
لو كان الصراع العربي – العربي حرّاً، وبلا تداخلات إقليمية ودولية، لكان أمرُ الحربِ والسِلم في أيدٍ عربية. لكنّ الصراعَ قد يستمرّ أجيالاً حتى ينسحقَ أحد المتنازعَيْن أو يتلاشيا معاً، لأنّه قائم بتشجيع النافذين، ولا يتوقف إلّا بإشارتهم.
لذلك، سيُشيِّع «الحزب» مزيداً من الضحايا – الشهداء في سوريا، ولن يغادرَها ما دامت حاجةً إليه. فهو يقاتل في «وطنه الحلم» الذي رسمَ حدوده لنفسِه، في فكرِه، بناءً على عقيدةٍ يقاتل لانتصارها.
لن يسمحَ «الحزب» بهزيمة حلفائه المذهبيين في سوريا، ولو كلّفه ذلك خيرة شبابِه. فأهلُه في سوريا ليسوا أقلّ أهمّية له من أهله في لبنان. وكذلك هم حلفاؤه المذهبيّون في العراق واليمن والبحرين وسواها… وصولاً إلى طهران. وأمّا «داعش» وشركاؤها فهُم أشدُّ تصَلّباً في القتال «الأممي».
ولذلك، تبدو محطة القلمون حيويّة لرسم الخرائط المذهبية، السورية واللبنانية وسواها. فالآتي لم يعُد يحتاج إلى تحليل. إنّها الدويلات التي ترتسِم على الأرض واقعياً… في خضمّ الأحلام الإمبراطورية. وهكذا، يمكن التحدّث عن مفاهيم متعدِّدة للشهادة والشهداء بين القوى اللبنانية المتصارعة.
عندما انتهَت الحرب الأهلية – إفتراضياً- في 1990، تراضى اللبنانيون، وفقاً لطريقتهم، على اعتبار كلّ الذين سقطوا في متاريس التقاتل الأهلي منذ 1975، شهداء. وذات يوم، سيعود شيعة «حزب الله» وسنَّة «داعش» وأخواتها، من غربة حروبهم الأهلية والموت في أرجاء الإمبراطوريات المتصارعة، تاركين وراءَهم جثامين الآلاف من خيرة الشباب اللبنانيين.
عندئذٍ، هل ستُتاح استعادة التاريخ؟ هل تتكرَّر التسوية، وتتكرَّر التسمية: شهداء؟ وشهداء لمَن؟ ولأجل مَن وماذا؟