IMLebanon

«حزب الله» والزبداني و«سوريا المفيدة» والاستنزاف الطويل

تحت عنوان «ما هي أهمية الزبداني على مستوى المنطقة»، سلّم مذيع نشرة أخبار «المنار»، الهواء لزميله، الذي كان يتقدّم الـvideo wall، ليُسهب في شرح الأهمية الاستراتيجية لمدينة الزبداني، مستخدماً الخرائط والـgoogle map .. وليستفيض في الحديث عن «لغة الحسم العسكري بوجه التكفيريين فيها». قارئ إعلام الممانعة، يستنتج من التغطية المُكثّفة والعاجلة لمعركة الزبداني، أن حزب الله، الذي لم يهتمّ إعلامه لمعارك درعا وحلب، اتّخد قراراً باحتلال هذه المدينة الحدودية مهما كلّفه الثمن.

قبل أسابيع، عَمِلَ «حزب الله« على رسم خطة «هادئة» للسيطرة على تلال وجبال وجرود القلمون، ضمن سياسة «القضم البطيء». الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله لم يكن مستعجلاً، حتى أنه رفض الالتزام بجدول زمني لإنهاء أي وجود لـ»الإرهابيين» في القلمون وعلى الحدود اللبنانية- السورية. فما الذي طرأ على المشهد كي يُعجّل نصرالله في معركة الزبداني؟ 

ثمة مغزى لتوقيت معركة القلمون الثانية ومن بعدها الهجوم على الزبداني في أعقاب انتكاستين عسكريتين في معركتين أساسيتين كان «حزب الله» والحرس الثوري الإيراني منخرطين فيهما بشكل مباشر، في باشكوي شمال غرب حلب وفي درعا. بعدهما خرج إعلام «حزب الله» ليُبشّر بـ»استراتيجية جديدة» أكثر تواضعاً، ليُخفّض سقف توقعات الجمهور من طموحات الانتصار على كامل الجغرافيا السورية إلى حدود تحصين دمشق والاقتصاد في فتح الجبهات.

مُطّلعون على الجغرافيا السورية، وتأثير «الميدان» على المشهد السياسي المستقلبي لسوريا، يضعون في حديث الى «المستقبل» 3 أهداف رئيسية تقف خلف استعجال نصرالله لهذه المعركة: أوّلها: أن «حزب الله« يستبق معركة دمشق بتأمين خطوط الإمداد بين لبنان والعاصمة السورية بشكل نهائي، حيث تشرف الزبداني على الطريق الدولية، إضافة الى تأمين الحدود اللبنانية – السورية لتصبح بشكل كامل تحت سيطرة الحزب. الهدف الثاني يصب في خانة العودة إلى مفهوم «سوريا المفيدة»، لكن هذه المرة المفيدة للولي الفقيه، لا لنظام الأسد، الذي انتهى أمره. بهذا المغزى يعمل «حزب الله« على تأمين مداه الحيوي من سلسلة الجبال الشرقية، وصولاً الى الساحل شمالاً وجبل الشيخ جنوباً (الحدود مع فلسطين المحتلة)، مروراً بدمشق وحمص في الوسط (الدويلة المأمولة)! وبهذا المعنى أيضاً يكون الهجوم على الزبداني بمثابة المعركة الاستراتيجية لاستكمال ضمّ دمشق الى دولة الولي الفقيه. فالزبداني تقع جغرافياً في مكان حساس للغاية، لكونها تؤمّن الطريق الى قمم جبال حرمون جنوباً والى جبال القلمون شمالاً. أما الهدف الثالث، فهو هدف متوسط وبعيد المدى، يسعى «حزب الله« من خلال تحقيقه الى إحكام قبضته على جميع معابر التواصل الجغرافي بين مليوني لاجئ سوري في لبنان مع عمقهم السوري، خشية أن يفكر أحدهم بنقل المعركة إلى عقر دار الحزب الذي يحاربهم في عقر دارهم.

الواقع الميداني لمعركة الزبداني مغاير لما تُسوّق له المنظومة الإعلامية لـ»حزب الله«. فهذا الحزب لا يزال يعمل على عزل المدينة عن محيطها وقطع كافة الإمدادات عنها وفصلها بالكامل عن «القلمون». وتطبيقاً للمثل الشعبي القائل، «ذُبِحَت يوم ذُبِحَ الثور الأبيض»، استبق «حزب الله« هذه المعركة بمحاولة إبرام صفقات تهدئة وترسيم للحدود مع التنظيمات المسلحّة في القلمون الغربي، ليُكرّس جهوده في معركة الزبداني، قبل أن يعود وينقضّ على هذه التنظيمات بعد الانتهاء من الزبداني! إلا أن جهوده باءت بالفشل، وأصبح الحزب معرّضاً لاستنزاف طويل على مساحة السلسلة الشرقية. وهذا ما بدا واضحاً من خلال استهداف «جيش الفتح» للعديد من مراكز الحزب ومواكبه العسكرية في القلمون الغربي في الأيام الماضية.

قد تكون معركة الزبداني صعبة على «حزب الله«، إلا أنها ليست مستحيلة. فالحزب الذي يمتلك الأسلحة الصاروخية المتطوّرة، والمدعوم بغطاء جوي من طيران الأسد وبراميله المتفجّرة، مقابل أهالٍ محاصرين لا يملكون سوى الإمكانات البسيطة، قد يلجأ في لحظة هستيرية الى حرق الزبداني كما أحرق «القصير» وحمص من قبلها !

حتى الساعة، تكبّد حزب الله خسائر بشرية كبيرة منذ أن انطلق في المعركة، على الرغم من إلقاء عشرات البراميل المتفجّرة على رؤوس أهالي الزبداني، واستخدام الصواريخ المتطوّرة، التي قيل إنها كانت معدّة لمفاجأة إسرائيل!! وعلى وقع خسائره، بدّل «حزب الله« من خططه لاجتياح الزبداني دفعة واحدة، بخطة القضم البطيء للمدينة وبساتينها وجوارها، علّه يُقلّص نسبة الخسائر في صفوفه. ما يعني أن الحزب قرّر التعامل مع المدينة «شارعاً بعد شارع» من دون المغامرة بإطلاق معركة واسعة.

«حزب الله« يعلم أن السيطرة على الزبداني، كما سيطر على قرى القلمون والقصير وحمص من قبلها، لا تعني أن «النصر الاستراتيجي» قد تحقّق. هذا «الشيطان الأكبر» بجبروته، محا الجيش العراقي خلال أسبوعين، لكنّه خسر أهدافه الاستراتيجية (طبعاً قبل أن تعيده إيران بنفسها الى العراق)! وقبل ذلك، احتلّ الجيش الأميركي أفغانستان، ثم ما لبث أن غرق في الوحول التي سبقه إليها الاتحاد السوفياتي. ولِمَ الذهاب في الذاكرة بعيداً؟ ها هو الجيش الإسرائيلي الذي «لا يُقهر»، لم يجد بديلاً من الانسحاب من الجنوب اللبناني بعد سنوات طويلة من الاحتلال. في بيئة ليست بيئته، يستطيع «حزب الله« أن يقتحم ويجتاح، مدعوماً ببراميل الأسد المتفجّرة وبصواريخه وبغازاته السامة، ما شاء أن يجتاح، لكن حين تصبح مواقعه ثابتة في الزبداني ومحيطها، إذا نجح، سيصبح هو الهدف، كما يحدث اليوم في القلمون وغيرها، وسيكون ثمن الاستنزاف أكبر من قدرته على التحمّل.

لذلك يسعى «حزب الله« الى تغيير الديموغرافيا السورية عبر تهجير الأهالي الأصليين (كما حدث في القصير سابقاً ويحدث في المزّة اليوم)، لتوطين آخرين مكانهم. ألم يقل السيّد إن «حزب الله« ليس قوى محتلة في القلمون بل هو من أهل الأرض؟ هكذا يعمل الحزب، الذي حذّر طوال عقود من المشروع الصهيوني لتقسيم المنطقة، على الإطاحة باتّفاق سايكس بيكو، ليصنع حدوداً جديدة يرسمها ظريف وكيري! لكنّ «حزب الله« لا يزال في معاركه الأولى في طريق الألف ميل. فبعد احتلاله للزبداني، إن نجح، سينقسم «رجال الله» الى قسمين. قسم يتّجه الى القنيطرة وقمم جبال حرمون لتأمين حدود الدولة المأمولة مع إسرائيل، وقسم آخر سيتّجه لإكمال معركته في جرود القلمون لوصلها بالساحل السوري. وفي القسمين استنزاف طويل وطويل، قد يضطر نصرالله على اثرها الى التضحية بـ»نصف أو ثلاثة أرباع» جمهوره!