يعتقد البعض خطأً أنّ الازمة الحكومية التي شهدها لبنان الأسبوعَ الماضي قد أُقفلت ولو على زغل. والصحيحُ أنّ التسوية التي جرت صياغتها على عجلٍ في ختام الجلسة الحكومية العاصفة جاءت عمومية أكثر ممّا هي بنود محدّدة وملزِمة، ما يعني أنّ «الشيطان» سيحضر في جلسة التفاهم على آلية العمل الحكومي. باختصار، إنّ ما نشهده اليوم هو أشبه بهدنة قبل جولة جديدة طاحنة.
حتى الآن، لا تبدو الاشارات الصادرة مشجِّعة أو يمكن عقد الآمال عليها، ما وصل الى «الرابية» أنّ وفد تيار «المستقبل» عادَ من السعودية حيث التقى الرئيس سعد الحريري بتوجيهات تقضي باستهلاك الوقت وعلكه ولكن من دون التورّط في تفاهماتٍ جديدة وفق ما يطالب به العماد عون.
هذه المعلومات لم تفاجئ «حزب الله» أيضاً فهو يربط مماطلة المستقبل بالرهان المستمرّ على تطوّرات الوضع في سوريا وعلى مناخ جديد يقيّد إيران وحلفاءها بعد التوقيع على الاتفاق مع واشنطن.
بالنسبة لسوريا فإنّ المنطقة الخطرة القادرة على التأثير مباشرة في التوازنات اللبنانية الداخلية تبقى حمص كون نجاح أعداء النظام في اختراق هذه المنطقة سيجعل لبنان الشمالي مفتوحاً أمام واقع جديد مختلف إن لم يكن معاكساً للواقع الحالي. طبعاً، فإنّ الرهان السابق على سقوط دمشق لم يعد قائماً بعد فشل العملية الاخيرة.
لذلك عمد «حزب الله» بالتعاون مع الجيش السوري على تدعيم حمص ولم يكتفِ بذلك بل وضع خططاً للتعامل مع احتمالات خرق الساحة اللبنانية الشمالية، ونصح «المردة» بوضع الخطط المسبَقة اللازمة لهذا الاحتمال، لكنّ هذا «الاستنفار» تراجَع بعض الشيء أخيراً خصوصاً مع تقدّم الجيش السوري باتجاه تدمر وهي المنطقة التي تشكّل مفتاحاً ميدانياً لاختراق حمص.
من هنا كلام أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير للفريق الآخر بعدم الرهان على تطوّرات ميدانية في سوريا. وأمّا على صعيد التوقيع على الاتفاق النووي الايراني، فإنّ أوساطاً ديبلوماسية أميركية كشفت عن جسِّ نبضٍ أميركي لموقف طهران من الملف اللبناني من زاوية الحديث عن العلاقة بين إيران و«حزب الله»، وحسب هذه الأوساط فإنّ ما حصل وإن كان ما يزال على مستوى «جسّ النبض» إلّا أنه كان واضحاً أن يأتي في سياق التمهيد لفتح الملف اللبناني بشكلٍ واسع ومفصَّل وليس كما كان يحصل في السابق في إطار رفع العتب وتسجيل المواقف وتسويق ذلك في العواصم الخليجية.
ولفتت في هذا الإطار مسألتان اساسيتان، الاولى وتتعلق بالمماطلة التي تشهدها الساعات الاخيرة من التفاوض قبل ولادة الاتفاق. والثانية بكلام مرشد الثورة السيد خامنئي والذي يعكس انزعاجاً واضحاً حين دعا الى الاستعداد لمواصلة القتال ضدّ الغطرسة العالمية بعد المحادثات النووية.
انطلاقاً ممّا تقدّم بدا تحالف عون – حزب الله مقتنعاً بالمعلومات التي وصلته حول التعليمات بالمماطلة وكسب الوقت من دون تقديم أيّ التزامات.
كلّ ذلك يجعل من الصراع الحاصل حول الحكومة أكبر وأبعد من العناوين المطروحة.
وفي دلالة على ذلك دخول «حزب الله» على الخطّ مع الرئيس نبيه بري الذي تراجع خطواتٍ الى الوراء وانكفأ بعد أن كان مشجِعاً اساسياً للرئيس تمام سلام. وتردَّد أنّ «حزب الله» قال لبري: «المسألة لم تعد مناكفات مع العماد عون، لقد أصبح الصراع في مستوى آخر ولا بدّ من التنبّه لذلك».
في كلّ الأحوال يستمرّ العماد عون في عملية تعبئة شارعه.
وفي معركته الأخيرة بدا للبعض أنه تجاوز مسألة الانتخابات الرئاسية من زاوية القواعد المعمول بها حالياً، وإلّا فكيف يمكن تفسير عودة التساجل العنيف بينه وبين تيار «المستقبل»؟
وبدا العماد عون وكأنه باشر بالدخول في مفترق طريق آخر. وهو سيطرح قريباً وضع قانون جديد للانتخابات ليشكل قاعدة الاستحقاقات المختلفة المطروحة وسيتقدّم بمشروعه الانتخابي. وهو طَرَح معادلة جديدة حين قال إما قانون جديد للانتخابات أو تسوية شاملة.
البعض فسّر خطأً ما عناه بالتسوية الشاملة. اعتقد هذا البعض أنه يتحدث عن تسوية «كلاسيكية»، فيما هو يقصد إصلاحات دستورية واسعة على أنقاض اتفاق الطائف، وقد تكون استقالة الحكومة مدخَلاً إلزامياً للذهاب بهذا الاتجاه، حيث يرجّح البعض أنّ الجولة المقبلة للصراع داخل الحكومة ستفتح بابَ تطييرها في آب المقبل أو ربما في أيلول على أبعد تقدير.
في المقابل لاقاه السيد نصرالله بكلامٍ مدروس بعناية: «نحن لا نريد تعطيل الحكومة أو استقالتها. لكنّ استمرار إدارة الظهر لمطالب العماد عون ستدفع باتجاهات اخرى». ثمّ وجّه نصرالله تحذيرَه الاساسي: «خياراتنا مفتوحة» لا حاجة لتفسير كلامه.
الأوساط الديبلوماسية الاميركية بدورها لا تستبعد استقالة الحكومة فجأة، وهي كانت تتوقّع الانفجار الكبير في أيلول، لكنّ الاحداث تسارعت واستبقت توقعاتهم. واشنطن تتحضّر لطرح تسويتها حول لبنان بعد سقوط الحكومة والذهاب لفوضى سياسية. تسوية أكبر من الدوحة وأصغر من الطائف في سلطنة عمان على الارجح تُنتج رئيساً للجمهورية قادراً على إعادة لمّ الشمل.
في هذا الوقت يستمتع سمير جعجع في موقعه الحالي. يترك «المستقبل» وحيداً في معركته «شامتاً» به و»بضعف» حلفائه المسيحيين الآخرين، وفي الوقت نفسه يحضن عون ويعمل لدفعه الى الامام مراهناً على سقوطه في الهاوية، ولكن بأسلوب يتيح له وراثة بعض من قاعدته الشعبية، ويسمح له بالعودة ممثّلاً حصرياً عن المسيحيين في مرحلة ما بعد التسوية.