لم يكتفِ حلف الإجرام والقتل بتدمير حلب فوق رؤوس أهلها وحرق منازلها بعد نهبها وإشعال شوارعها وأبنيتها بالنار والبارود، بل عمد إلى إغلاق ما سمّاه «الممرّات الآمنة» التي لم تكن في الأصل، سوى ممر للهروب من الموت تحت الركام والدمار، إلى موت من نوع آخر تمثّل بإعدامات على الحواجز الفاصلة بين المناطق وبإغتصاب النساء وسرقة جنى عمر الأهالي وإذلالهم مع أطفالهم وتجويعهم بعد اخضاعهم لعمليات تفتيش قد تطول لأكثر من يومين ريثما يتأكد لـعناصر بشّار الأسد و«حزب الله» والميليشيات الحليفة، بأن أجساد الأطفال العارية والنحيلة، غير مُعدة للتفجير.
بين الإعلان عن وقف إطلاق النار ثم العودة عنه، يغتنم أهالي حلب المقلوبة رأساً على عقب، الفرصة للفرار من غضب النظام وحمم بركان طائراته والنجاة بما تبقّى لهم من عمر. يقفون عند منتهى الأيّام لينظروا إلى أرواح نسوها خلفهم، لكنهم لا يجدون سوى بقايا جثث بعضها مُتفحّم، فيما البعض الآخر، ينبض بما تبقّى من حياة. لكن من يهتم إلى أصوات الإستغاثة التي تنبعث من تحت الركام ومن خلف غبار الموت، ومن من طُعناء السن، سيعترف عند أوّل اصطدام بعناصر القتل، بأن له قطعة من كبده، قاومت حتّى النفس الأخير دفاعاً عن الأرض والعرض، قبل أن تلقى وجه خالقها.
في حلب تُثخن الجراح وتتكاثر الصلوات على الشفاه. في حلب، يولد الموت من رحم الموت، فلا حياة تبقى ولا طفل يُمكن ان يُخبر في المستقبل عما صنعه عبيد الأسد فيهم، وكأن قطع الأنسال هناك هو المقصود والمطلوب، لكي لا يبقى لأهل حلب، حُجّة على «الممانعة» في الدنيا. ثم بعد ذلك، يأتي الأسد بيقين إستمرار الموت وقتله للمدنيين تحت حجة «محاربة المسلحين». يقول جزّار سوريا في حديث أمس أن «الأعمال العسكرية لن تتوقف بعد تحرير مدينة حلب من الإرهابيين وأن التوقف يحصل فقط في المنطقة التي يقول فيها الإرهابيون بأنهم جاهزون مباشرة لتسليم السلاح أو الخروج منها». عن أي مسلحين يتحدث جزّار ضائع بين الطموحات الروسية والفتوحات الفارسية وهو غارق في قتل أبناء بلده حتّى أذنيه؟. مَن يُقنع هذا القاتل، أن في احد مستوصفات حلب الفارغة من الدواء على انواعه، ثمة طفل مُصاب تنهمر دموعه على وجنتيه وهو يسأل عن والديه، ويعتقد أن الساعات المُقبلة سوف تُعيده إلى تلك الأحضان الدافئة، من دون أن يُدرك أن الأحضان المنشودة أضحت ملكاً للأرض فقط.
«إن لم تستحِ فاصنع ما شئت». من هذه المقولة، يلجأ الأسد إلى تبرير تخاذله ونفاقه وتنسيق قوّاته مع تنظيم «داعش» الإرهابي، فيقول إن «الهجوم الأخير لداعش على تدمر وبأعداد كبيرة من الإرهابيين وبأسلحة نوعية وعلى مساحة جغرافية تتجاوز عشرات الكيلومترات، يعني أنه أتاه دعم مباشر من دول»، لافتاً إلى أن «توقيت الهجوم على تدمر مرتبط بمعركة حلب لأنهم أرادوا أن يقللوا من قيمة تحرير مدينة حلب، وأن يشتتوا جهود الجيش السوري باتجاهات متعددة»، مشدداً على أنه كما حررنا تدمر في السابق سنحررها مرة أخرى». وهل يتناسى «الأسد» كيف سلّم مدينة تدمر لداعش منذ أشهر من دون اي مقاومة وكيف عاد واسترجعها بالطريقة نفسها؟ وعلى الطريقة ذاتها أيضاً، عاد وأخرج جيشه من تدمر منذ أيام، وبالأسلوب نفسه، سوف يستعيدها.
في لبنان كل العيون تتجه إلى ما يحدث في حلب اليوم وإن بطرق مُختلفة. ثمة فئة تدعو وتُصلّي لحماية الأهالي وتطلب من الله أن يجعل نيران الموت برداً وسلاماً عليهم. وهؤلاء لا يوفّرون فرصة إلا ويستغلّونها للتذكير بالمجازر التي تُرتكب هناك وحرب الإبادة التي يشنّها حلف «المُمانعة». أمّا في المقلب الآخر، فهناك مَن يترقب عودة مُقاتلين يُشاركون نظام القتل في الإرتكابات والمجازر، وهؤلاء جزء أساسي من محور عمليات الإبادة الجماعية المذهبية هناك، ويأتي ذلك وسط معلومات تتحدث عن إستعدادات للحظات سوف يتم من خلالها، إستعادة مشاهد التشييع، بشكل يفوق المرّات السابقة.
هو نوع من الغلو والمُكابرة اللذين يُمارسهما «حزب الله» وإعلامه بحق مدينة بدأ سكانها يصطفّون بالطوابير استعداداً للموت. حزب سوف تزرع أفعاله الحقد بين جمهوره بعدما أوهمه بقدسية حرب سوف تطول رياحها لسنوات مُقبلة وقد تمتد لأجيال تربت على القتل والدماء والأخذ بالثأر. ومن تمكّن من الخروج من حلب، سُمع وهو يردد نشيد الموت ويُقسم بدماء أطفاله بأن موعد الثأر لن يطول وأن الأيّام المُقبلة ولو طالت، سوف تشهد لأصحاب الأرض بانتصارات موعودة حتّى لو تحوّل القتل إلى جزء أساسي من يوميّاتهم وإلى شعار يرفعونه ويعتزّون به مع كل «رقم» جديد يُسطّر على لوائح الموت.
هنيئاً لك يا حلب، هنيئاً لك الشهادة وهنيئاً ثمرة بطولتك وعنفوانك كوكبة من الشهداء الأطفال الذين رحلوا من البرد إلى حيث أكثر الأماكن دفئاً وراحة وامانا. هنيئاً لكل شهيد تمنّى العودة اليك ليسقط مُجدداً بين أحضانك.