Site icon IMLebanon

«حزب الله» في حساب الطوائف والطبقات.. والبورجوازية الشيعية

يتنقل اللبنانيون منذ سنوات طويلة بين احتساب كلفتين: كلفة المواجهة مع «حزب الله» وكلفة المساكنة معه. 

واقعياً ويومياً هم يؤدون الكلفتين معاً، وبتسعيرة: اقتصاد سياسي مرهق لكلفتي المواجهة والمساكنة ولكلفة «الوقوع في النقطة»، أو الحيرة والتأرجح بين سراب الخيارات في الحالتين، وكون «مسألة حزب الله» لا تتوقف على اللبنانيين وحدهم. 

كلفة مواجهة. كلفة مساكنة. كلفة تأرجح! 

في التاريخ اللبناني الحديث، هناك قوة وحيدة وازنة داخل طائفتها، جربت المواجهة الشاملة (حروب الضاحية واقليم التفاح وبعلبك) ثم المساكنة الشاملة مع «حزب الله»، وهي «حركة أمل». القوى الأخرى، وهي من خارج النسيج الأهلي – المذهبي للحزب، «اكتشفته» متأخرة، وبالنسبة للمسيحيين تحديداً «اكتشفوه» متأخرين جداً، رغم الواقع «التخومي» الذي يفترض أن يجعلهم على تماس واسع مع «الخمينية التطبيقية». 

بشكل اجمالي، ورغم الاختلاف في الموقع والموقف، بين حليف للحزب وخصم له، تشترك القوى الوازنة في الطوائف السنية والدرزية والمسيحية في واقع «نصف المواجهة، ونصف المساكنة» مع الحزب. 

هذا مع مفارقتين في الواقع المسيحي: فالعونيون انشقوا عن «نصف المواجهة»، بعد التزامهم بها لفترة من الزمن، وصاروا «حلفاء» للحزب. «تفاهمهم» معه منع تطويقه عندما كان من الممكن، في الداخل، تطويقه، ولعب اذاً دوراً حيوياً لا يقدر بثمن بالنسبة له. لكن «التفاهم» بقي ينظر اليه مسيحياً كمعاهدة، إما احتمى بها المسيحيون من «حزب الله» نفسه، وإما يحتمون به من سواه. هذا بالنسبة لأنصار «التفاهم». وبالتالي يبقى حالة نافرة ضمن معادلة «نصف المواجهة، نصف المساكنة» المشار اليها. 

في المقابل، «القوات اللبنانية» تحتل المقلب الآخر من المعادلة: هنا تصل فكرة المساكنة مع منطق «حزب الله» الى حدّها الأدنى، دون أن يخرجها ذلك من دائرة «نصف المواجهة» الى المواجهة الكاملة. وأكثر، دخلت «القوات» والتيار العوني في ثنائية تحاكي الى حد كبير ثنائية «أمل – حزب الله»، وأضرّ ذلك بالحلف «الاستقلالي» دون أن يلحق ضرراً يذكر بحلف «حزب الله – عون» حتى الآن. 

احتك الاجتماع المسيحي اللبناني مراراً مع «حزب الله»، لكنه لم يتصادم معه على نطاق واسع. ليس الاجتماع المسيحي ذاكرة مباشرة مشابهة للسابع من أيار في بيروت وبعض الجبل. هذا في مقابل التصادم الأعنف للاجتماع المسيحي مع الجيش السوري في لبنان نهاية السبعينيات ونهاية الثمانينيات، والضغط السيادوي الذي كان مركزه بكركي طيلة التسعينيات، قبل تنوعه طائفياً بدءاً من عام ألفين. 

المؤسسات الكنسية والمرجعيات السياسية المسيحية لم يكن لها تجربة مماثلة مع الحزب، وبقيت قبل تحرير الجنوب تنظر اليه «طرفياً»، من زاوية المسيحيين الحدوديين ومصائرهم، أو حين تنظر اليه «مركزياً» فمن زاوية لبنانية مشتركة. لم يطرح بعمق سؤال: ما الذي يعنيه «حزب الله» بالنسبة لمصالح وتطلعات المسيحيين، وما هو دورهم في حل جملة الاشكالات المذهبية والطائفية، والأمنية والدفاعية والديبلوماسية، والثقافية والتربوية، والاقتصادية والمالية، المتعلقة بظاهرة انتفاخته الفائقة كحزب تعبوي مسلّح يدين بالأيديولوجيا الايرانية «الحرسية» في لبنان، ويكتفي بمحاصصة الآخرين في المؤسسات حين لا يعطلها، في حين يستفرد بالإمرة، فيمنع ويبيح، ويتعامل مع الميثاقية كأكورديون، يوسّعه ويضيّقه على كيفه، ويستولي على قرار الحرب والسلم بحجة ان الدولة ليست قوية، وهو باستيلائه هذا يؤسس لما هو أخطر من ضعفها، خصوصاً أنه يحتاج هذه الدولة كـ»واسطة» يحتمي بها من «غدر العالم». 

يصعب على اللبنانيين غير المتعاطفين مع «حزب الله» تقدير اختلاف الأوضاع الجغرافية والديموغرافية والأمنية لكل منهم حياله. فالوطأة مختلفة، من منطقة لأخرى، ومن طائفة لسواها. 

لا يزال نفوذ الحزب محدوداً في القسم الشمالي لجبل لبنان فضلاً عن لبنان الشمالي قياساً على نفوذه جنوب وشرق لبنان، وهذا بالتأكيد هو المعطى الموضوعي الأساسي لطرح مسألة «حزب الله» الكيانية والمجتمعية، وهذا لا ينفصل عن طرح الأزمة البنيوية اللبنانية بعامة والبحث عن خارطة طريق جدية لمعالجتها تباعاً. 

لا تزال قوة الحزب العسكرية والأمنية أكبر من قوته السياسية، وقوته السياسية أكبر من قدرته على التحكم بالمعادلات المالية، رغم تداعيات وجوده وحروبه على الاقتصاد بطبيعة الحال. والأهم، لا يزال مضطراً للاعتماد على «وساطة» غير المتعاطفين معه، للاحتماء وراءهم. 

قوته حيال القطاع المصرفي تبقى أكثر هشاشة من قوته حيال أخصامه السياسيين، مهما قيل عن «جبن رأس المال». فالمراهنة على «جبن رأس المال» سياسياً قد يكون من الممكن التحكم بها أكثر، أما المراهنة على «جبن رأس المال» مصرفياً، فهي لعبة تزكي الخيار الشمشوني في مكان ما، ولا يمكن تقدير تبعاتها. لا مهرب هنا من وزن الأمور باصطلاحية ماركسية: «حزب الله» حزب لأي طبقة؟ قوته أنه نجح في الظهور كحزب شعبي شيعي مسلح، لكن كحزب «تمكيني» للبورجوازية الشيعية، وانه نجح في تفادي التعارض بين سمتيه هاتين. لكن خصوم الحزب الخارجيين يعملون بما يؤسس لهذا التعارض، وهذا يصيب الحزب بانفعال شديد، ويحاول بشتى الوسائل ان لا يتحول بالنسبة الى بورجوازية طائفته الى وطأة باهظة الكلفة أكثر فأكثر. هو الآن يهمّه ان يوحي بأن مشكلتها هي مشكلته، وان العقوبات تستهدفهما معاً، بنفس القدر. الطريف في كل هذا، ان المهووسين العلمانيين واليساريين بـ»حزب الله» لا يطرحون عليه تلك الأسئلة الطبقية، كأن الصراع الطبقي الذي يرطنون بأشكال مبتذلة وهزلية له، ضد الطوائف الأخرى تارة، وضد المصارف تارة، وضد «الطبقة السياسية» و»النيوليبرالية» وما اشتهيت من عناوين وأشجان، لا تسري على الجسم اللطيف الذي هو «حزب الله»، فيرفعونه حزباً فوق الطوائف وفوق الطبقات.