يُحكى في التاريخ أن اسبارطة ظلّت تواجه جرائم قتل غامضة ستة عشر عاماً. وفي يومٍ من الأيام، اضطر رجلٌ يدّعي الشكيمة والسماحة إلى مغادرة المدينة لرعاية مصالحه في ناحية مجاورة. يُحكى أن المدينة نعمت بعدها بسنتين من الاستقرار لم تقع خلالهما جريمة اغتيالٍ واحدة.
في لبنان أيضاً، كان اغتيال الشهيد وسام الحسن آخر الجرائم الكبيرة والكاسرة للتوازنات. ومنذ ذلك الحين هُيّئ للّبنانيين أن «تعويذة« ما تحمي استقرار البلد وسط حرائق المنطقة، في وقت أشعل «حزب الله» بحروبه العابرة للحدود، فسهّل تشكيل حكومة شراكة وطنية، وسمح لها بتسيير شؤون الناس نوعاً ما، وأفسح المجال أمام الخطط الأمنية والمؤسسات الرسمية لتأمين أبواب الضاحية الجنوبية والجنوب وعرسال.
اللبنانيون المرتابون من هذا التزامن لا يخفون قلقهم من عودة الاغتيالات والاعتصامات المسلحة والاجتياحات الميليشيوية على طريقة أيار، عندما ينتهي انشغال «حزب الله»، أو عندما يقرّر أن مصلحته في الاستقرار انتهت؟
اعتاد «حزب الله» على الحديث عن اهتزاز الاستقرار و»اللعبة الخطرة» و»دخول البلد في المجهول» بِشَيْءٍ من تجهيل الفاعل وخلط التحذير بالتهديد. لكن تجربة الأشهر الماضية أثبتت فعلاً أن «حزب الله»، لا غيره، يمسك بيده مفتاح الاستقرار متى كانت مصلحته تقتضي ذلك. لا حاجة لقول الكثير في حيثيات تلك المصلحة. يقول بشار الأسد علناً إنه يعاني نقصاً في القوى البشرية (المقاتلة). كان الرجال يُستقدمون من العراق ليموتوا بالعشرات يومياً في الجبهات السورية، فجاء صعود داعش ليعيد الميليشيات العراقية إلى بلادها، ليظل «حزب الله» وحده مع جيش بشار المتآكل وبعض من الميليشيات الأفغانية والإيرانية.
انتكاسات الحزب العسكرية في سوريا خلال الأشهر الماضية تقول الكثير. فشل فشلاً ذريعاً في معركة تطويق حلب والوصول إلى نبل والزهراء، وتلقى ضربة قاصمة حين فشل هجومه الكبير على درعا، ثم توقّفت معاركه في القلمون لأسباب غير واضحة. وها هو الحزب يستقتل منذ شهرين لدخول قرية واحدة محاصرة منذ ثلاث سنوات ويعجز عن دخولها بغير سياسة التدمير الشامل بآلاف الأطنان من القذائف والصواريخ والبراميل المتفجرة. في وضع صعبٍ كهذا، «حزب الله»، كما قال أحدهم بالحرف، «مش فاضي» لأي اشتباك محلي فيما رجاله يقتلون في حروب «الولي الفقيه». هو بالأحرى، يريد مساعدة الجيش والقوى الأمنية في تأمين استقرار لبنان، الحديقة الخلفية للولي الفقيه. وإذّذاك تبقى أي مشاغبة من حليفه ميشال عون زوبعة في فنجان، إلى أن يجدّ جديد في حارة حريك أو طهران.
وقد جدّ جديد. «الاتفاق النووي» يطلق يد إيران في كل الساحات لكنه يغلّها في ساحة واحدة هي فلسطين. منذ لحظة التوقيع ينتهي اللعب مع إسرائيل ولا تبقى إلاّ بعض الخطابات لزوم الاستهلاك الإعلامي. لا يمكن أن يظل «حزب الله» خطراً على إسرائيل في أي استاتيكو طويل الأمد في المنطقة. قد تتراءى لإسرائيل الفرصة لتصفية هذا الخطر فيما تنشغل «طهران روحاني» ببناء اقتصادها وبساحات بعيدة عن فلسطين. وقد يرى «حزب الله» أن الرياح الدولية لا تهب لصالحه فيبادر إلى «تكييف« فائض قوته فيقلب طاولة الاستقرار على الجميع، ليدفع البلاد نحو «جمهورية ثالثة» تكرس صعود «الشيعية السياسية» في قلب النظام السياسي.