بعد عدوان تموز 2006، حوّل حزب الله تلك المعركة الى «سرد اسطوري». منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، يخرج الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله في كلّ عام ليستعيد «المشهد المدهش». صحيحٌ ان العدو الاسرائيلي فشل «بسلاح جوّه وبقوة الدمار وبهَول المجازر»، في ان يحسم المعركة بوجه شعبٍ آمَنَ وصبر وصمد وواجه، إلّا ان الحرب السورية افقدت الجماهير العربية وحتى جمهور حزب الله رونق تلك «الدهشة». إذا كان صمود حزب الله في حرب 2006 ، «معجزة»، كما يصفها «سيّد المقاومة»، فماذا يقول عن صمود الزبداني مثلاً؟
أسطورة «حزب الله« صارت من يوميات الشعب السوري، وصمود الحزب بوجه العدو الاسرائيلي اصبح في الجانب الآخر من الأسطورة. بات هو من يملك سلاح الجو والدبابات، في مواجهة اهالي القرى والمدن السورية، الذين يلعبون، بصمودهم وبصبرهم، دور «رجال الله». تحدّث نصرالله في خطابه الأخير عن «وادي الحجير المبارك»، وقبل أعوام قليلة، وفي اطار تكريسه لـ»الدهشة» في نفوس جمهوره، ذكّر بـ»مارون الراس المعجزة». يومها قال، «إن جيشاً يقاتل بقوات النخبة وبالدبابات، يسانده سلاح الجو، يعجز عن دخول مارون الراس إلّا بعد 5 أيام من القتال وخسائره الكبيرة، فهو جيشٌ مهزوم وفاشل». فماذا يقول «سيّد المقاومة» عن الزبداني، التي فشل في اقتحامها بعد حوالى الشهرين من القتال واكثر من عامين من الحصار، على الرغم من امتلاكه لسلاح الجو وللبراميل المتفجّرة وللدبابات ولقوات النخبة»؟ هل هذا يعني ان حزب الله هو حزب مهزوم وفاشل؟
ينتقل نصرالله الى الملف السوري، ليقلب كافة الحقائق، بقوله «إنّ جون كيري أعلن في الدوحة ان داعش تشكّل خطراً على سوريا، وكي نمنع داعش من الوصول الى دمشق يجب ان يرحل النظام الحالي». من أين أتى نصرالله بهذا التصريح؟ أولاً، لا وجود في الادبيات السياسية الاميركية اي اشارة الى «رحيل النظام»، بل هي تعتمد صيغة ان «لا مكان للاسد في مستقبل سوريا». حتى في الصيغة الاميركية الكثير من الإلتباس. قد يكون من الفائدة انعاش ذاكرة السيّد في بعض التصريحات الأخيرة للادارة الاميركية. قال مسؤول اميركي منذ ايام، «إن واشنطن ضغطت على الأردن لقطع الامدادات عن «الجيش الأول» في درعا، الأمر الذي ادى الى وقف تقدّم «عاصفة الجنوب» والثوار، التي تصفهم ادارات غربية بـ»المعتدلين». أهكذا يتآمر «الشيطان الأكبر» على الأسد؟ ومن ثمّ يخرج مسؤول اميركي آخر قبل ساعات على خطاب السيّد، لينفي علم واشنطن بكلّ ما قيل عن منطقة عازلة على الحدود التركية- السورية»! فكيف يقول السيّد ان واشنطن تريد «اسقاط النظام السوري»؟
يُكمل السيّد قلب الحقائق، فيؤكّد، ان «واشنطن توظّف داعش سياسياً للتخلّص من النظام الحالي». ويتساءل، «هل هذه المعارضة المعتدلة، خارج داعش وجبهة النصرة، هي قادرة على مواجهة داعش»؟ ويضيف قائلاً، «أصلاً كيري يقول إن تجربة تدريب المعارضة المعتدلة فشلت، ومن بين 2000 شخص درّبتهم المخابرات الاميركية في تركيا يوجد 60 شخصا فقط وافقوا ان يقاتلوا داعش». هنا، يزوّر نصرالله، تصريحات حلفائه قبل الخصوم. يعرف نصرالله جيّداً ان 60 مقاتلاً من أصل 2000 تدرّبهم أميركا، وافقوا على توقيع تعهد يقضي بقتال داعش فقط وليس النظام. اي عاقل يتوقّع بأن يوافق ثوار، يطالبون بإسقاط الاسد، ان يواجهوا داعش حصرا؟ اي معارض عاقل يرضى بأن يدفع فاتورة محاربة داعش دون تقديم ضمانات له بإسقاط الأسد؟ حتى ان نصرالله تابع، بالطبع، تصريح «رفيق السلاح» وزير الخارجية السوري وليد المعلم خلال زيارته لسلطنة عمان قبل أيام، حيث أكد ان «الولايات المتّحدة أبلغت دمشق بأن المعارضة المعتدلة ستواجه داعش حصراً، ولن تمسّ الجيش السوري»! هكذا بالحرف. هل يعقل بعد هذا كلّه أن يتّهم السيّد الاميركيين بمحاولة اسقاط الاسد؟ أم أنه يريد ان يُبقي على مشروعية العداء لـ»الشيطان الأكبر» حتى بعد ان اصبح في خندق واحد معه في سوريا!
«كلّه كوم» واتّهامه للسعودية وللاميركيين بمحاولة تقسيم سوريا «كوم تاني». اذا كانت اتّهاماته صحيحة، فلماذا يستميت الايرانيون، في مفاوضاتهم مع «احرار الشام» في اسطنبول، لارساء اتفاق يفضي بانسحاب اهالي الزبداني والقرى المجاورة، مقابل إخراج 40 الف شيعي من الفوعة وكفريا؟ حتى ان المرصد قال امس الاول، «إنّ أهالي الفوعة يجمعون سندات الاراضي والبيوت ليفاوضوا عليها»! هذه الطروح بحد ذاتها تكشف نيات ايران وحزب الله لمستقبل سوريا. من يطرح هذا «الترانسفير» لا يمكن ان يقنع الناس بأنه يخوض حرب الضرورة، وبأن لديه نيات مصالحة بين السوريين. الايرانيون وحزب الله يخطّطان لعقود مقبلة من إعادة رسم الديموغرافيا السورية، وتعزيز الوجود الشيعي في المركز عبر الاستيطان، وتهجير ما أمكن من السنة مما يسمّونها «سورية المفيدة» الى الاطراف. حتى ان هذه الممارسات لم تحدث بين الفلسطينيين والمستوطنين الصهاينة.
أمّا في الموضوع اللبناني، فقد تناوله السيّد وفقاً لمقولة «دقّة على الحافر ودقّة على المسمار». القول بأن رئيس تكتّل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون هو «ممرّ إلزامي» للرئاسة، بدل التأكيد على ما دأب عليه قادة الحزب من أن «عون رئيساً أو لا انتخابات»، بمثابة تراجع خطوة الى الوراء. ولكيلا ينصدم «الجنرال» بهذا التراجع، جاءت دقّة السيّد على مسمار الشراكة. تماهي السيّد مع نظرية عون حول الشراكة، باعتبار أن هناك من يحاول كسره، على الرغم من ان احداً من قوى 14 آذار لم يتحدّث بمنطق الإلغاء هذا، ما هي إلّا محاولة لصرف النظر عن تورّط الحزب في حروبه المتنقلة، عبر تحميل تيار المستقبل تبعات الازمات، وهذا ما أكّد عليه الرئيس سعد الحريري. وما تهديده بالشارع الا محاولة لانقاذ عون معنوياً بعد ان تحوّل من مرشّح دائم الى «ممرّ إلزامي».
فشل نصرالله، في احياء ذكرى «الانتصار الالهي» على العدو الاسرائيلي، باستعادة «المشهد المدهش». سوريا أعادت «الرؤوس الحامية» الى أرض الواقع. وما كان يشتكي منه السيّد من همجية العدو، بات يشتكي منه الشعب السوري. وبعد سنوات من صمود حزب الله وبيئته بوجه ترسانة اسرائيل العسكرية، بات السيّد يواجه صمود الشعب السوري الأعزل. فشل نصرالله أيضاً في قلب حقيقة الجهة المُتّهمة بقيادة مشروع التقسيم، وما استماتة ايران لتكريس طرح «الترانسفير» المذهبي، إلّا دليل واضح على الجهة التي تعمل على التقسيم. انهى السيّد خطابه، دون ان يتطرق الى اعتقال خلية حزب الله الارهابية في الكويت! ألم يقل في أحد خطاباته إن سحر داعش سينقلب على الساحر الخليجي؟ بات واضحاً من يعمل على نسف أمن الخليج ونسيجه، تزامناً مع خطاب «الجار» قبل «الدار»..»الظريف»!