تنقسم الآراء داخل بيئة سيادية حول «حزب الله» بين نظرتين: نظرة متشدّدة عقائدياً وأخرى أكثر براغماتية، فيما الظروف وحدها ستُظهر أيَّ وجهةِ نظرٍ كانت على حق.
ترفض النظرة المتشددة الكلام عن أيّ تبدُّل في توجّه «حزب الله» الأساسي الرامي إلى تحقيق ثلاثة أهداف أساسية:
ـ الهدف الأول، الاحتفاظ بسلاحه وإبقاء لبنان ساحة نفوذ إيرانية.
ـ الهدف الثاني، الإمساك بكل مفاصل الدولة وصولاً إلى وضع اليد على القرار السياسي كلياً على غرار حقبة الوصاية السورية.
ـ الهدف الثالث، أسلمة لبنان وفقاً لنموذج ولاية الفقيه.
وتعتبر هذه النظرة أنّ الخلاف مع «حزب الله» لا يقتصر على أهدافه المشار إليها أعلاه، بل يتعداه إلى خلاف حول النظرة في كل شيء تقريباً من تاريخ لبنان إلى دوره وسياحته وثقافته، وترى أنه يتوسل كل التكتيكات الممكنة من أجل جعل لبنان على صورته، وتقول إنه واهمٌ كل مَن يعتقد أنّ الحزب يمكن أن يتغيّر أو يتلبنن، وتشدّد على ضرورة مواصلة المواجهة معه، ورفض أيّ مساكنة في حكومة واحدة، وجعل السخونة السياسية هي القاعدة لا التبريد السياسي، وتقول إنّ من الخطأ التطبيع مع فريق سياسي لا يؤمن بنهائية الكيان اللبناني ومشروعه أكبر من لبنان ومرجعيته طهران لا بيروت وأولويته إيرانية لا لبنانية وعند تناقض المصلحة اللبنانية مع المصلحة الإيرانية موقفه حاسم إلى جانب الأخيرة.
وقالت إنّ «حزب الله» إيراني المنشأ والفكر والعقيدة والتوجّه والسلاح والمال ومبدأه هو التقية حيث ينكفئ عندما يرى بأنّ الظروف غير ملائمة، ويضرب ويتقدّم في كل لحظة يعتبر فيها أنه قادر على تحقيق فصول من مشروعه السياسي.
ورأت أنّ مَن يقاتل في البوسنة والهرسك وسوريا والعراق واليمن وشبكاته تمتدّ من مصر والبحرين إلى إفريقيا وكل أصقاع العالم، لا يمكن التعويل على إقامة دولة معه باهتمامات وأولويات لبنانية تبدأ من قيام الدولة الفعلية ولا تنتهي بتثبيت الاستقرار وترسيخه وتوفير كل مستلزمات العيش الكريم للناس، لأنّ عقله سيبقى خارج البلد، فيما مصلحته تكمن بإبقاء لبنان ساحةً من أجل متابعة دوره ومواصلة مشروعه.
وختمت بالقول: لا حلول وسطى مع «حزب الله»: إما يحوِّل لبنان على صورته، وإما يتغلّب عليه لبنان، والمهادنة معه تتيح له مواصلة قضمه التدريجي.
وأما النظرة البراغماتية فتحذّر من المبالغة إن باتّجاه شيطنة «حزب الله» أو باتّجاه استسهال التسوية معه، وتدعو إلى التعامل بواقعية، فتصعِّد حيث يجب أن تصعِّد، وتليِّن حيث يجب أن تليِّن، وذلك ضمن محظورين: محظور العودة إلى الحرب الأهلية، ومحظور أن يضع الحزب يده على لبنان.
وتضيف هذه النظرة أنّ هناك مَن يعتبر أنّ التعامل مع «حزب الله» أصعب من التعامل مع الوجود الفلسطيني أو السوري في زمن الحرب والوصاية كون الحزب قوة شيعية لبنانية لا يمكن التعامل معها كقوة خارجية، معتبرةً هذه المقولة خاطئة لأنّ الوجودين الفلسطيني والسوري كانا يحظيان بغطاء داخلي والذي لولاه لما تمكّنا من بسط نفوذهما في لبنان، فيما القوة الخارجية قادرة على حكم لبنان بخلاف القوة الداخلية، والدليل أنّ كل الاحتلالات كانت خارجية بينما قدرة أيّ قوة داخلية تبقى محدودة بترسيمات جغرافية وطائفية.
ودعت إلى التمييز بين انشداد «حزب الله» إلى جذور انطلاقته وأفكاره ومبادئه ودوره، وبين تبدُّل ممارسته من بدايات هذه الانطلاقة حتى «اتفاق الطائف»، وبين «الطائف» إلى خروج الجيش السوري، وبين حقبة الانقسام الآذاري العمودي إلى مرحلة التبريد والمساكنة الحالية وبدايات اهتمامه بالملفات الاقتصادية والاجتماعية، واعتبرت أنه لا يمكن تجاهل هذا التطور، وإذا كان يظن البعض أنّ استخدامَ فيديوهات تعود لحقبة الثمانينات تُضرّ بالحزب، فهو مخطئ كونها تخدمه وتؤشر إلى التطور الذي حققه.
ورأت أنه على رغم احتفاظه بعقيدته ولكنّ أسلوب العيش هو الأساس، فإذا انخرطت بيئة «حزب الله» بالبيئة اللبنانية وأصبحت في موقع تقبُّل الآخر والتفاعل معه اجتماعياً وأدركت أنّ ما يصيبها قد يصيبه والعكس صحيح، فلا بد من أن يتراجع منسوبُ التعبئة، والانتخابات الأخيرة دلّت على ارتفاع المطالب المعيشية لدى هذه البيئة التي لم تغادر خيار المقاومة، ولكنها تعتبر أنّ الخيار الأخير غيرُ كاف للعيش بكرامة بعيدا من الفقر والعوز، كما دلّت التجربة أنه بمقدار ما يتشنّج الوضع السياسي بمقدار ما تقترب هذه البيئة من الحزب وتبتعد من مكوّنات المجتمع اللبناني، وبمقدار ما يهدأ الوضع بمقدار ما ترتفع مطالب هذه البيئة وتقترب من البيئات الأخرى.
وقالت إنّ جذور مشروع «حزب الله» إيرانية، وهذا لا يشكل موضع خلاف، ولكن إذا بدّلت طهران بدورها نتيجة العقوبات والضغوط يبدِّل الحزب بدوره، وإذا لم تبدِّل لن يبدِّل، وطالما نزع سلاحه بالقوة غير ممكن، فإنّ الخيار الأوحد هو المساكنة مع هذا الوضع للحفاظ على الاستقرار، ولكنّ شرط المساكنة هو تعطيلُ مفاعيل سلاح الحزب إن باستخدامه داخلياً أو خارجياً، وعدم السماح له ديموقراطياً بالتمدّد على مستوى الدولة.
فالخيارات محدودة بإثنين: الخيار الأول، إما حرب وقد جُرِّبت، وعدم استقرار وقد جُرِّب، وانقسام وقد جُرِّب، ونتيجته أنّ أحداً غيرُ قادر على شطب الآخر. والخيار الثاني، مواصلة المساكنة الحالية التي نجحت في تحقيق ثلاثية ذهبية: استقرار وانتظام ونأي، والتحدّي اليوم يكمن في تحصين هذه الثلاثية وتشجيع الحزب على مزيد من الانخراط في الهمّ اللبناني، وتوسيع قاعدة المشتركات مع بيئته.
فلا المطلوب الاستسلام للحزب، ولا المطلوب أيضاً شنّ الحرب عليه، وواهمٌ كل مَن يعتقد أنّ في استطاعته تدجين المسيحيين والسنّة والدروز، ومن الطبيعي أن تكون المبادرة في يده لأنه مصدر المشكلة وسببها، ما يعني التعامل معه بالمثل، أي التصعيد يواجه بتصعيد والتبريد بتبريد.
ويدرك الحزب في نهاية المطاف أنّ دوره السياسي يتمظهر في لبنان فقط لا غير، فيما أدواره الأخرى هي عسكرية وأمنية مضرّة لدوره الأساس، ولا بدّ أيضاً من أن تنتهي أدواره الخارجية، من ثمّ مَن قال إنه لا يريد أن يقلِّد النموذج الإيراني الذي انبعث منه لجهة بناء دولة في الداخل واعتماد الثورة في الخارج؟
من الخطأ إقفالُ الأبواب، بل التلاقي حيث يمكن التلاقي، وأظهرت الحكومة الأولى من العهد أنّ مساحات التلاقي تتوسّع مع الحزب في زمن الاستقرار وتتقلّص في زمن الصدام، ولا يجب أن يسهوَ عن بال أحد أنه في التوقيت المناسب سيبحث عن التسوية المناسبة، وذلك مهما طال الزمن أو قصر، فتجارب غيره لن تختلف عن تجربته، وقد تكون بدايات عودته السياسية إلى لبنان قد بدأت، مع عدم استبعاد وجود تيارَين داخل الحزب وضرورة مساعدة التيار المنفتح على اللبننة وليس تقديم الحجج للتيار الآخر من أجل الانقلاب على أيِّ توجُّه من هذا النوع.
ولا يمكن أخيراً التعامل مع التاريخ وكأنه حالة جامدة، وإذا كانت ظروف الحرب والوصاية شجّعت على نموِّ «حزب الله» وتطوره، فإنّ ظروف السلم وطبيعة لبنان التعددية والديموقراطية والمنفتحة ستجعل الحزب يندمج مع هذه البيئة، لأنه مهما علت قدراته لن يتمكّن من أن يجعل لبنان على صورته ومثاله، فيما الزمنُ كفيلٌ بجعل الحزب على صورة لبنان ومثاله، ومَن يعش يرَ…