كان لافتاً ما أعلنه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله منذ يومين خلال إحياء الحزب الذكرى السنوية الأولى للقيادي مصطفى بدر الدين الذي ما زالت ظروف مقتله في سوريا غامضة نوعاً ما خصوصاً أن الرواية التي رُوّجت حول موته، لم تقنع حتى أولئك المُقربين من «حزب الله». فقد أعلن نصرالله «أننا فككنا وسنفكك بقية مواقعنا العسكرية على الحدود من الجهة اللبنانية، لأن مهمتنا أنجزت. و منذ اليوم، تقع المسؤولية على الدولة، فنحن لسنا بديلاً عن الدولة اللبنانية والجيش اللبناني، والأمور في السلسلة الشرقية متروكة منذ اليوم للدولة».
يبدو أن «حزب الله» أدرك، ولو متأخراً عمق وخطورة المستنقع الذي أغرق نفسه فيه منذ قرر الدخول طرفاً في الصراع السوري في العام 2011. واليوم يتنامى هذا الشعور في ظل عجز الحزب وحلفائه من جيش النظام والحرس الثوري الإيراني والميليشيات العراقية والأفغانية، عن تحقيق أي انتصار من شأنه أن يُبرّر الأسباب التي دفعته إلى هذا التدخل والتي على أساسها ما زال حتّى اليوم يُحاول أن يُقنع جمهوره بأهمية وجدوى الحرب التي استنزفت خيرة قادته العسكريين وعناصره تحت مُسمى «الواجب الجهادي». لكن وعلى الرغم من الآلام التي تسبّب بها الحزب للبنانيين عموماً وأبناء طائفته على وجه الخصوص، يجوز الاستشهاد بالمثل المأثور «أن تأتي متأخراً، خيرٌ من أن لا تأتي أبداً».
وحدها الخسائر والهزائم ونهاية حلم السيطرة على أراضٍ سورية وتحديداً تلك الواقعة عند الحدود القريبة من لبنان، يُمكن أن تجعل «حزب الله» يتراجع عن أمور كان يعتبرها أولوية في الحرب التي يخوضها في سوريا. وفي كلام نصرالله الكثير من المغالطات التي سيكون لها ارتداد سلبي في الوقت القريب داخل بيئة الحزب وذلك على خلفية الأسئلة التي ستُطرح حول الأسباب التي دعته للتورط في هذه الحرب «المجنونة»، والمكتسبات التي حققها في سوريا؟ والسؤال الأبرز الذي سيواجهه الحزب، هو: إذا كان التدخل في سوريا من أجل حماية المقامات والمقدسات إضافة إلى القرى الحدودية تحت مسميات «الواجب الجهادي»، يستأهل كل هذا التورّط الذي وصل إلى العمق السوري مثل مدينة حلب وأريافها وإدلب والعاصمة دمشق، وما إذا كان يستأهل أيضاً دفع هذه الكلفة الباهظة من الخسائر في العديد والعتاد وما نجم عنها من اعتداءات على المدنيين سواء في لبنان أو في سوريا؟
«لقد أنجزت المُهمّة». في الواقع الميداني، لا يُمكن القول تحت أي ظرف من الظروف، إن «حزب الله» انتصر في حربه السورية، لا على تنظيم «داعش»، ولا على «فتح الشام» (النصرة سابقاً)، فهذان التنظيمان ما زالا ناشطين في سوريا ضمن مساحة تتجاوز المساحة التي يُسيطر عليها نظام بشّار الأسد، وما زالا يحتفظان بنفوذ عسكري وسياسي في سوريا، والدليل الاتفاقيات والمفاوضات التي يعقدها «النصرة» سواء في اسطنبول أو في قطر والتنسيق مع النظام في عمليات تبادل المناطق والأسرى. وهذا اعتراف واضح من الحزب بوجود الجماعات «التكفيرية» التي يُقاتلها تحت مسميات عدة. اللهم إلا إذا كان قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير القرى والبلدات السورية وإحراق الأراضي واستملاك بعضها تحت الترهيب والتهديد بالإضافة إلى الاكتفاء بمشاهدة السلاح الكيماوي وهو يفتك بالمدنيين، هو نصر لـ«حزب الله» وللحلف الذي ينتمي اليه.
وفي نظرة أخرى لقراءة إعلان نصرالله انسحاب «حزب الله» من المواقع الحدودية اللبنانية – السورية، يُمكن الاستدلال من خلال الأزمات التي يمر بها خلال المرحلة الحالية وعلى رأسها الأزمة المالية، أن الحزب ما عاد يستطيع تحمّل الأعباء المالية التي يتكبدها في الحرب السورية في ظل تخفيض المساعدات الإيرانية إلى أدنى مستوياتها منذ تأسيس الحزب، وخصوصاً الميزانية المرتفعة جداً التي يُخصّصها لمؤسستي «الشهيد» و«الجرحى»، وهذا ما دفعه في الآونة الأخيرة، إلى العودة لجمع التبرعّات المالية من داخل بيئته والاستنجاد بمتمولين شيعة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، لكن وبحسب مراقبين لطبيعة عمل الحزب، فإن ما تمكّنت المؤسّسات المعنية بالتبرعات من جمعه خلال الفترة الأخيرة، لا يُمكن أن يسد جزءاً ولو بسيطاً من الأعباء المالية التي يُعاني منها «حزب الله». وجميعها أمور جعلت الحزب يُقلّص الكثير من الخدمات والمساعدات التي كان يُقدمها لجماعته وللمقربين منه.
وأمس، نقلت قناة «المنار» التابعة لـ«حزب الله» خبراً قالت فيه: «إن المقاومة الإسلامية تقوم بتسليم الجيش اللبناني المواقع العسكرية الواقعة غرب بلدة الطفيل وجرود بريتال وحام ومعربون في السلسلة الشرقية للبنان». هذا الخبر جاء ليؤكد ما قاله نصرالله في الخطاب نفسه بأن «هناك تطوراً إيجابياً عند الحدود الشرقية بين لبنان وسوريا، فهذه الحدود أصبحت آمنة بدرجة كبيرة، ونحن في المقاومة دخلنا إلى تلك الجبال، وقضى مجاهدونا في الجبال ليالٍ وأياماً صعبة، قتلوا وقدموا الشهداء، والآن على الحدود لم يعد هناك أي داعٍ لتواجدنا». في هذا السياق، ثمة معلومات تحدثت في الإعلام عن أن هذا الانسحاب جاء بأمر روسي بالتوافق والتنسيق مع الجانب الأميركي في ظل المساعي التي يقوم بها الطرفان لإنهاء الصراع الدائر في سوريا. وهذا يؤكد في مكان ما، خبراً كانت قد انفردت به صحيفة «إزفستيا» الروسية منذ شهرين تقريباً، يقول: «إن المشاركين في محادثات آستانة بدأوا بوضع آلية انسحاب الوحدات الشيعية الأجنبية من سوريا. وإن مراكز المصالحة الروسية بين الأطراف المتحاربة، والمنتشرة في أنحاء مختلفة من سوريا، سوف تصبح أدوات رئيسة للإشراف على احترام وقف النار، وانسحاب التشكيلات الأجنبية المسلحة من البلاد، بما في ذلك وحدات حزب الله».
خبر تفكيك مراكز «حزب الله» عند الحدود الذي تحدث عنه نصرالله، وعلى الرغم من الآلام التي تسبّب بها للعديد من العائلات التي تعتبر أنه كان يُمكن المحافظة على حياة أبنائها لو أنه اتبع سياسة رؤيوية في تعامله مع الأزمة السورية منذ بدايتها، إلا أنه ترك أثراً إيجابياً في نفوس أهالٍ كانوا حتى قبل إطلالة نصرالله، قد يأسوا من عودة أبنائهم أحياء من مستنقع قادر على ابتلاع أعداد تفوق بكثير تلك التي ابتلعها منذ بداية الحرب السورية في العام 2011.