في طريق الذهاب من بيروت إلى الرياض، عاش الحريري صدمة الانقلاب المفاجئ من التنازل المطلق لـ»حزب الله» إلى المواجهة المطلقة. ولكن، في طريق العودة المتدرِّجة من الرياض إلى بيروت، تَمّ «تبريد» الحريري بمحطتين: باريس والقاهرة. وهكذا، هو يعود إلى بيروت بثابتين: أبواب التسويات مفتوحة… لكن أبواب التنازلات مقفلة!
كلّ عناصر التسوية باتت مكتملة. لم يكن عبثيّاً إمرار الحريري بـ«المرحلة الفرنسية»، لمصلحة الجميع، ثم تتويجها بالمحطة المصرية. ففي أيام قليلة، هبط «بارومتر» التوتر من المستوى التفجيري في «فيديو الاستقالة» إلى المستوى الاستيعابي في الصورة الجامعة في احتفال الاستقلال.
وعلى غرار سيناريو التفجير والاستيعاب الذي مَرّت به أزمة الاستقالة، جاء سيناريو الجامعة العربية. فالبيان حمل شُحنة عالية من التصعيد أرادتها السعودية، ووافقت مصر على إمرارها. لكنّ الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط سارع إلى بيروت ليستوعِب الصدمة.
ظهر أبو الغيط في عين التينة وكأنه ليس هو نفسه الذي أطلق المواقف على منبر الجامعة، من موقعه الرسمي. هو لم يتراجع عن اتّهام «حزب الله» بـ«الإرهابي العامل في خدمة إيران»، لكنه كان ديبلوماسياً إلى درجة مُبالغ فيها، فلم يذكر «الحزب» بالإسم، وأوحى أحياناً بأنّ التصعيد في القاهرة أرادَه فريق محدّد داخل الجامعة العربية، ولا بدّ من مراعاته. وفي عبارة أخرى، ظهرت على الرجل «عوارض» كونه وزيراً سابقاً للخارجية المصرية.
في الموازاة، الجميع في لبنان يريد تأمين الأجواء ليهبط الحريري سالماً في بيروت. طبعاً، في الطليعة رئيس الجمهورية ميشال عون، ومعه «حزب الله» الذي سيتمسّك به في موقع رئاسة الحكومة، وإلّا فسيكون مرشّحه الوحيد ليكون مكلَّفاً تأليف الحكومة المقبلة.
كان الخيار المثالي لدى «حزب الله» أن يستمرّ الحريري وحكومته وفق التسوية المعقودة في خريف 2016، والتي رجحت فيها الكفّة لمصلحته. لكنّ هذه الخطة هي التي تتعرَّض اليوم للهجوم السعودي والأميركي.
لذلك، سيوحي «الحزب» بأنه اعتمد خياراً بديلاً يتجاوب مع الوساطات أو الضغوط العربية والدولية. لكنه في الواقع سيُجري تعديلاً طفيفاً في الشكل على هذا الخيار نفسه. ويقول بعض العارفين: «حزب الله» سيعطي الحريري ورقة قوية يستخدمها لدى السعوديين وتُمكِّنه من العودة عن الاستقالة». ويقول هؤلاء: «ليس هناك ما يمنع «الحزب» من إعلان التزامه الكامل والجدّي عدم القتال في اليمن، الخاصرة السعودية.
وفعلاً، إذا كان هناك بعض الخبراء أو المقاتلين، بأعداد محدودة، من «الحزب» يعملون هناك، فيمكن سحبهم لأن لا حاجة حصرية إلى «الحزب» هناك، ويمكن لإيران أن تستبدلهم بخبراء ومقاتلين من جنسيات أخرى. أمّا الصواريخ البالستية فليس ضرورياً أن يكون «الحزب» مَعنيّاً بها».
يمكن لـ«حزب الله» أن يدعو أيّاً كان إلى التحقّق من عدم وجوده قتالياً في اليمن، ومن اقتصار وجوده هناك على الجوانب الإنسانية والسياسية والإعلامية. وفي ذلك، هو يلتزم شرطاً سعودياً يحمله الحريري للعودة عن استقالته. وسيؤكد «الحزب» أنه ما زال يتحرك عسكرياً في الساحة السورية فقط، فيما حربه انتهت في العراق.
وهكذا، سيساعد «حزب الله» رئيس الجمهورية ميشال عون على الوفاء بتعهده للحريري التزام مبدأ «النأي بالنفس». وكذلك، سيدعم الاتجاه إلى استئناف الحوار جدّياً حول الاستراتيجية الدفاعية، بمشاركة وطنية جامعة.
عملياً، لن يخسر «الحزب» شيئاً في ما سيُعلن تقديمه من أجل تسهيل العودة إلى التسوية القديمة. فلا مفاعيل واقعية لإعلان انسحابه عسكرياً من اليمن ولا مفاعيل واقعية لانطلاق الحوار في الاستراتيجية الدفاعية. لكنّ «الحزب»، بهذين الموقفين، سيمنح الحريري ورقة قوية يعتقد أنها ستكون رابحة في حواره مع القيادة السعودية حول الخطوات المقبلة.
فالسعودية لا تريد – من خلال استقالة الحريري- سوى التزام النأي بالنفس. ولا بدّ أن يتراجع الحريري عن الاستقالة إذا ما تحقّق ذلك. وفي هذه الحال، لا يبقى مبرِّر للتصعيد السياسي السعودي ضد الحكومة اللبنانية.
ستمضي إيران في دعم الحوثيين في اليمن، الخاصرة السعودية. وهذا ما يستفزّ القيادة في الرياض. ولكن لن تكون هناك يدٌ لـ«حزب الله» اللبناني في القتال هناك. ولذلك، يحقّ للمملكة أن تصعِّد حملتها في مواجهة طهران، ولكن ليس في مواجهة «حزب الله» والحكومة اللبنانية التي تكون قد وَفَت بتعهداتها من أجل إنقاذ العلاقات اللبنانية – الخليجية من مأزق خطر.
سيكون اتجاه الأزمة، في الأيام المقبلة، رهناً بما ستعلنه القيادة السعودية، وتحديداً ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي ينسِّق خطواته مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي تُراهن على القائد السعودي الشاب وطروحاته الجريئة على مختلف المستويات داخلياً وخارجياً، لكنها تحاذِر المَسّ باستقرار لبنان.
فإذا اكتفَت القيادة السعودية بهذا المقدار من الضمانات، الذي قدّمه «حزب الله» والحكومة اللبنانية، فستكون الفرصة متاحة أمام الحريري العائد أساساً بـ«مزاج تَسووي» لكي يمضي في المسار التوافقي السابق، ولكن وفق أسس ومعطيات جديدة في التعاطي مع «حزب الله».
ولكنّ المشكلة ستكون معقّدة إذا اعتبر السعوديون أنّ ما جرى تقديمه إليهم من ضمانات ليس كافياً ولا مُقْنِعاً، وأنّ الضغط على «الحزب» والحكومة اللبنانية يجب أن يستمرّ ويتصاعد لدفعهما إلى تنازلات أخرى، ومنها مثلاً فكّ الارتباط العسكري بين «الحزب» وإيران، وإلّا فكّ الارتباط بين «الحزب» والحكومة اللبنانية. وفي هذه الحال، تكون أزمة لبنان بكل تشعباتها في البدايات لا في النهايات.