التقيت أحد المسؤولين الكبار في حركة فتح في قبرص بعد أشهر على إجلاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982. ما زلت أذكر أنه قال لي لو لم تخرجنا إسرائيل من لبنان لخرج أهل لبنان لطردنا بالشلاليط (الأحذية). كان الرجل يغمز من قناة تعفّن أصاب الوجود الفصائلي الفلسطيني وتبرم مما كان يعرف آنذاك بـ «التجاوزات الفلسطينية».
قد يكون في كلام الرجل مبالغة يراد منها «مياكولبا» تفسر سرّ الهزيمة المدوي. لكن في كلامه أيضاً ما كان يعبر عن أن القضاء على الوجود الفلسطيني المسلح لم يكن فقط وليد تفوّق عسكري أنهى في ثلاثة أشهر قوة كانت تعد قبلها بتحرير كل فلسطين، بل مآل منطقي لانهيار البيئة المجتمعية، سواء تلك في لبنان أو تلك في العالمين العربي والإسلامي، التي جردت الفعل الفلسطيني من أي سقوف راعية وداعمة في العالم.
قد تشبه الأعراض التي تصيب «حزب الله» في لبنان تلك التي أصابت منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عشية الاجتياح الشهير صيف عام 1982. صحيح أن قوة حزب الله العسكرية تفوق بأضعاف ما كانت تملكه الفصائل الفلسطينية قبل 35 عاماً، وصحيح أن الحزب، على عكس منظمة التحرير، جزء من المنظومتين السياسية والاجتماعية للبنان، إلا أن وضع الحزب هذه الأيام بات مرادفاً لخلل لم يعد يحتمله البلد عامة، بحيث تسرّب الورم خبيثاً داخل البيئة اللصيقة المفترض أنها «جمهور المقاومة» الذي لا يهتز ولاؤه.
وما الشتائم التي كيلت مؤخراً إلى الحزب و «سيده» إلا مشهد فاضح لما تبيّته بيئة حزب الله خلف الأبواب. ولا يمكن الانطلاق من مشهد الردح المنقول على الهواء مباشرة لاستنتاج «ثورة» ضد حزب «المقاومة»، بل يمكن، على الأقل، التسليم بأن حالة اللادولة التي تعيشها الضاحية وأهلها، باتت تتصادم مع حالة اللادولة التي أرادها حزب الله دائماً منهجاً يبرر من خلاله ولادته ووجوده وبقاءه وشططه من خبايا الخطف في الثمانينات إلى خبايا العبث على ثغور المدن السورية.
والأدهى أن عملية التأديب التي لا نعرف نوعها، والتي نقلت الرداحين إلى مصاف المعتذرين التائبين، حوّلت خلال ساعات «المقاومة» المقدسة في عرف جمهور الحزب إلى سطوة قهر وسلطة تفرض على «أشرف الناس» قواعد جديدة ودفتر شروط مستحدثة ستنظم علاقة الحزب ببيئته.
وفيما لا يردُ حزب الله كثيراً على انتقادات منتقديه من داخل الطائفة الشيعية ولا يكترث كثيراً لهجماتهم التي تنهال على الحزب وأمينه العام، فإن شتائم «حي السلم» أقلقت قيادة الحزب على نحو دفعه لارتجال مسرحية الاعتذار من «السيد» بأشكال يتضح التصنّع فيها بما يُفترض أن لا يليق بقداسة الحزب المقاوم وسيده.
والحقيقة أن ركاكة إخراج قصائد الاعتذار ليست وليدة عجلة فقط، بل إن في شكلها المتصدّع ما يوحي بأن الحزب لم يعد يستطيع الركون إلى رصيده في العقل الجمعي للشيعة في لبنان، ولم يعد بإمكانه تسويق «العقيدة الحسينية» لدى العامة، وهو المتلعثم في تبرير «شهادة» مقاتليه أثناء حربهم لخصوم مفترضين في سورية. ينتقل الحزب للتعامل مع حالات الغضب والاعتراض على نحو قمعي لا تَسامُح فيه على غرار ما تمارسه أجهزة الأمن في نظم الاستبداد التقليدية.
ثم أن «فضيحة» الشتائم في شوارع الضاحية تعكس بلادةً زرعها حزب الله في الوعي العام لبيئة المقاومة. بدا أن الحزب خلال العقود الأخيرة استطاع إخصاء قوة التمرد والعصيان لدى طائفة عرف عنها مند الاستقلال عصيانها الدائم على السائد سواء كان سياسة أو ثقافة أو اجتماعاً. كان في بعض الصراخ الأخير عتب على حزب، يدفع الشباب من أجله الأرواح، فيما يسكت عن قيام الدولة بقمع مخالفات. بمعنى آخر، أن تلك البيئة لا ترى مسوغاً للاعتراض على قيام الحزب بقتل السوريين في سورية، لكنها تنتفض ضد هذا الحزب لأنه نظرياً سمح للدولة أن تفرض أنظمتها عليها وتنهي استثناءها من قوانينها. والأنكى أن في بعض نصوص الاعتذارات من طالب بأن يُرسل إلى سورية (وليس إلى فلسطين مثلاً) من أجل التكفير عن إثم الشتيمة المرتكبة.
لم تصل أمور منظمة التحرير في لبنان إلى هذا المستوى من الاهتراء المجتمعي العام. كان أبو عمار ممسكاً بمفاتيح مهمة في لبنان، لكن البلد كان في صلب حرب أهلية منقسماً جغرافياً، فيما كانت قضية فلسطين آنذاك ما زالت «قضية العرب الأولى». في المقابل، يمسك حزب الله حالياً بقرار الحكم في البلد ويجلس على ترسانة صاروخية تتجاوز لزوميتها حجم لبنان ووظيفته، لكن أرضيته اللبنانية باتت طرية تتحرك داخلها رمال جوانية فضحتها شتائم «حي السلم». ليس هذا ما سيطيح أسطورة الحزب الدائم الانتصار، لكن ذلك ما سيوفّر ظروف أي خطط مقبلة في هذا الصدد.