أمّا وقد حلّ الشغور في الرئاسة الأولى، في مشهد متوقّع لم يخرج عن سياق الترجيحات السياسية التي أحاطت بالاستحقاق الرئاسي منذ أشهر، فقد باتت حكومة نجيب ميقاتي المستقيلة، المطعون بشرعيتها السياسية، لا الدستورية، موضع ضرب وقصف مركّز سيمارسه «التيار الوطني الحرّ» مع انتقاله على نحو رسمي وكامل إلى صفوف المعارضة ليراكم حيثيته الشعبية والسياسية قبل أن يعلن رئيسه جبران باسيل بالفم الملآن ترشّحه للرئاسة.
في كلّ ما أقدم عليه باسيل في الأسابيع الأخيرة، وما سانده فيه، رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، يشي بأنّ الأول يتجه حكماً للقفز إلى حلبة المنافسة الجدية على كرسي بعبدا، بدليل أنّه هو الذي حمّس ودفع عون للتوقيع على مرسوم استقالة الحكومة، ولو أنّ التوقيع، لزوم ما لا يلزم وقد يتعامل مجلس النواب مع رسالة رئيس الجمهورية بشيء من الاستخفاف وقليل من الأهمية.
لكن لرئيس «التيار الوطنيّ الحرّ» حسابات مختلفة. هو بالأساس لم يكن متحمّساً لقيام حكومة جديدة تسهم في عبور الوقت المستقطع، بالحدّ الأدنى من التوتر والاشكالات السياسية، ويفضّل أن يشهر سيف معارضته باكراً ليشدّ عصب جمهوره ويذكّر الحليف قبل الخصم، بأنّ خروج عون من القصر لا يعني أبداً «موته السريري» ولا خروجه من المشهدية الرئاسية ولا حتى تراجع مكانته في الساحة الداخلية.
أكثر من ذلك، يعتقد باسيل وفق عارفيه أنّ الفوضى الدستورية والاشتباك السياسي اللذين سيفرضهما الشغور الرئاسي معطوفين على الحالة الملتبسة لحكومة تصريف الأعمال، قد يرفعان من رصيد أجندته الرئاسية. ولهذا تقاطعت مصلحته مع مصلحة رئيس الحكومة المكلف، ومعه رئيس مجلس النواب نبيه بري في الشروط والشروط المضادة التي تعكس عدم رغبتهم في التأليف، والتي «كعّت» الحليف، أي «حزب الله» في محاولته لمّ الشمل الحكومي.
بناء عليه، تشي المؤشرات الأولية بأنّ رئيس «التيار الوطنيّ الحرّ» سيعتمد المسار التصاعدي في خطابه المعارض، لضرب أكثر من عصفور:
أولاً، للحؤول دون تخطي حضوره على الشطرنج الرئاسية، والعمل على تدعيم دوره كمعبر إلزامي، ولو أنّ «حزب الله» يتعامل معه على هذا الأساس لاعتبارات عديدة، كحليف استراتيجي وكشريك رئاسي لا يجوز القفز فوق موقفه.
ثانياً، إعادة احياء ترشيحه خصوصاً وأنّه يعتقد أنّ الوقت قد يعزز فرصته، محلياً واقليمياً، ولهذا سيعيد وضع ورقته على طاولة المفاوضات.
ثالثاً، قطع الطريق على بقية المنافسين، وأبرزهم رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية وهو المتيقن أنّ ترشيحه أكثر من جدي، وهو أقرب من غيره إلى الرئاسة. ذلك لأن أي معادلة حسابية بسيطة تبيّن أنّ القطب الزغرتاوي ينطلق من تأييد الثنائي الشيعي، ومن مجموعة أصوات من الكتلة السنيّة، فيما وليد جنبلاط لا يقف على الضفّة النقيضة، حتى لو صبّت أصوات كتلته في الوقت الحالي عند النائب ميشال معوض، لكنّ الرجل قد يعيد تموضع تصويته اذا ما نجح فرنجية في رفع سكور أصواته، مع العلم أنّ الرئيس بري أبلغ أكثر من طرف: هاتوا موافقة باسيل على فرنجية، فأعطيكم أصوات «اللقاء الديموقراطي».
ولكن بنتيجة خلط الأوراق الذي سيفرضه باسيل حين سيتلو بيان ترشيحه (يتردد أنّه أعدّ برنامجاً شاملاً لا يغفل الاستراتيجية الدفاعية)، سيكون «حزب الله» أمام واقع رئاسي، تتحكّم به العوامل الآتية:
لا يبدو أنّ «الحزب» بصدد تكرار تجربة انتخاب رئيس للجمهورية غير موثوق من جانبه، ولا يكون من صلبه. بمعنى أنّ التطورات الاقليمية التي تشي بتحرّك رمالها إلى أمد غير معروف، تدفعه إلى التفكير ملياً بمدى ثقته برئيس الجمهورية المقبل، وبالتالي قد يشطب من احتمالاته السير برئيس وسطي، على عكس ما كانت تدلّ عليه معطيات الأسابيع الماضية التي كانت تشي بأنّ «الحزب» لا يمانع في تغطية مرشّح تفاهمي من قماشة الوسطيين، أو المستقلين. إلا أنّه يبدو أنّ تطورات الخارج قد تفرض عليه العودة إلى المربّع الأول: رئيس يمكن الاطمئنان إليه. وهذا يعني أنّ ترشيح قائد الجيش جوزف عون، لم يعد خياراً مفضّلاً لدى «الحزب» مع العلم أنّ مسؤوليه يبلغون سائليهم، أنّه لا فيتو على أي مرشح.
وهذا ما يؤدي استطراداً إلى أنّ فرنجية هو على رأس القائمة التي يدفع «الحزب» باتجاهها، طالما أنّ باسيل مطوّق بالحواجز الداخلية والخارجية. ومع ذلك لم يتردد رئيس «التيار الوطنيّ الحر» في إبلاغ الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرلله حين التقاه في المرّة الأخيرة، أي الأسبوع الماضي، أنّه لن يسير بترشيح فرنجية.
هل هذا يعني أنّ الاستحقاق الرئاسي دخل نفقاً عميقاً؟
لا تبدو الإجابة شديدة السلبية لدى المطلعين على موقف «حزب الله». وفق هؤلاء، الوقت كفيل بفرض المتغيرات، التي قد تسهم في اقناع باسيل أنّ حظوظه معدومة وأنّ مصلحته تقضي بعقد تفاهم مع المرشّح الأكثر قدرة على خرق الحواجز (حتى اللحظة لا تزال السعودية تمانع في وصول فرنجية)، وذلك بضمانة «حزب الله». ولكن متى؟ لا جواب حتى الآن.