يقف «حزب الله» اليوم على مفترق طرق. فهو من جهة، لا يزال أقوى حزب سياسي في لبنان. ومن جهة أخرى، كانت تكلفة ضلوعه في الصراع السوري لدعم نظام بشار الأسد باهظة من الناحيتين المادية والسياسية، إذ أدّت مشاركته العسكرية في سورية إلى خسارة دعمه الشعبي في العالم العربي، وانحسار حضوره السياسي من كونه بطلاً قومياً عربياً إلى مجرّد لاعب محلي في لبنان. وعلى رغم قوته مقارنةً بمنافسيه السياسيين في الداخل اللبناني، إلا أن مسار الصراع السوري يعني، في ظل غياب نصر واضح في الأفق لنظام الأسد واحتمال أن ينتهي الصراع من خلال حلّ وسط بين الأطراف الخارجية المؤثّرة، بمَا فيها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وإيران، أن «حزب الله» سيحافظ على وجوده مستقبلاً ولكن باستقلالية متقلّصة للغاية.
سلاح «حزب الله» هو الدافع الرئيسي وراء مشاركته في الصراع السوري. ذلك أن هذا السلاح الآتي من إيران يمرّ عبر سورية، وهي المكان الذي يخزّن فيه الحزب بعض تلك الأسلحة، فضلاً عن كونها المكان الذي يدرّب فيه قواته. وقد هدّدت الانتفاضة السورية بإسقاط نظام الأسد، الأمر الذي من شأنه، بالنسبة إلى «حزب الله»، أن ينطوي على خطر فقدان شريان الحياة المهم هذا. لذلك، طلبت إيران من «حزب الله» مساعدة نظام الأسد في محاولة لسحق المعارضة السورية. في البداية، ظنّ «حزب الله» وإيران أنهما سيتمكّنان من التغلّب بسهولة على المعارضة، على أساس تجربة إيران الخاصة في سحق «الحركة الخضراء» في عام 2009. غير أن تدخّل أطراف إقليمية لمساعدة المعارضة، فضلاً عن الجهات المانحة الخاصة الكثيرة التي موّلت إنشاء مجموعات جهادية مختلفة لمحاربة النظام، عنى أن الانتفاضة السورية تطوّرت إلى مواجهة عسكرية عنيفة جرّت إيران و «حزب الله» إلى أتون الصراع، حيث أثبت الأسد عجزه عن التصدّي لكل أولئك المعارضين بمفرده. وسرعان ما تصاعدت مشاركة «حزب الله»، من إرسال مستشارين عسكريين لمساعدة الجيش السوري، إلى نشر قوات النخبة وبأعداد كبيرة للقتال على الخطوط الأمامية.
شكّلت حسابات التقليل من قدرة المعارضة على التحمّل والتكيّف ضربة كبيرة لنظام الأسد، حيث لم يتمكّن الجيش السوري من الوقوف في وجه «الجيش السوري الحر»، فضلاً عن مئات الجماعات الجهادية التي تحارب ضده. تم دفع الأسد إلى الاعتماد على روسيا وإيران و «حزب الله» لدعم نظامه. وهذا حوّل الأسد من حليف استراتيجي للحزب ولإيران إلى زبون لهما، ما أعطى «حزب الله» اليد الطولى في علاقته مع سورية، ووفّر له قوة سياسية داخلية في لبنان.
في الماضي، لم يكن انتخاب أي رئيس في لبنان ممكناً من دون مباركة سورية. أما اليوم، فلا تزال البلاد من دون رئيس بسبب قرار «حزب الله»، وليس بسبب قرار الأسد. ومن ثم أصبح سلاح «حزب الله» مرة أخرى أداة سياسية. وفي حين تم استخدام السلاح في أيار (مايو) 2008 محلياً لفرض السياسة اللبنانية التي يريدها «حزب الله»، يجري استخدامه اليوم في الخارج، ولكن لتحقيق النتيجة نفسها.
مع ذلك، كانت تكلفة هذا الصعود في قوة «حزب الله» السياسية مقابل الأسد، فضلاً عن منافسيه في لبنان، كبيرة. فحتى عام 2011، كان «حزب الله» يصف نفسه بأنه بطل المضطهدين في الكفاح ضد الظلم. لكن دعمه لنظام يذبح شعبه جماعياً أسفر في نهاية المطاف عن خسارته القبول الواسع الذي كان يحظى به في العالم العربي.
أثار تدخّل «حزب الله» في سورية أيضاً سلسلة من الهجمات المضادّة من جانب الجماعات الجهادية السنّية، التي نفّذت عدداً من التفجيرات في معاقل الحزب داخل لبنان عام 2013 وفي أوائل عام 2014. أضعفت الهجمات صورة «حزب الله» باعتباره حصناً منيعاً للدفاع والمقاومة، غير أن الأهم من ذلك أنها ساهمت في زيادة التوتّرات الطائفية في لبنان. لم يكن السبب في ذلك أن اللبنانيين السنّة تعاطفوا مع الجهاديين السنّة – سنّة لبنان معتدلون في معظمهم – بل لأنهم كانوا يعتبرون أن تورّط «حزب الله» في سورية هو السبب وراء امتداد الصراع السوري إلى لبنان.
حاول «حزب الله» استغلال الهجمات من طريق تصوير تدخّله في سورية على أنه يتعلق بحماية لبنان من خطر «الجهاديين التكفيريين». بيد أن خصوم الحزب وجدوا أن هذه الحجّة غير مقنعة، وبدأت الخلافات العلنية في شأن هذه المسألة بين الساسة ووسائل الإعلام المؤيدة والمناهضة لـ «حزب الله» تنذر بتأجيج التوتّرات الطائفية. ومع استمرار الهجمات الإرهابية، أصبح الساسة اللبنانيون من مختلف ألوان الطيف السياسي يشعرون بالقلق إزاء تدهور الاستقرار في البلاد. لذلك، شرعوا بالتشاور والتعاون مع «حزب الله» في شأن الوضع الأمني في محاولة لحماية لبنان من أنشطة الجهاديين، لأنهم شعروا بالقلق من أن استمرارها وتداعياتها الطائفية ستجر البلاد في نهاية المطاف إلى حرب أهلية جديدة. نجح هذا التعاون العملي في وقف الهجمات إلى حدّ كبير، لكنه لم يمهّد السبيل للحيلولة دون حصول المواجهة بين «حزب الله» وخصومه.
تكبّد «حزب الله» أيضاً خسائر مادية كبيرة في سورية. وبسبب عدم قدرة النظام السوري على مواجهة التحدّيات العسكرية المختلفة، بات لزاماً على الحزب زيادة مستوى مشاركته، حيث أرسل المزيد من القوات للقتال في سورية، بمن فيها قوات النخبة وكذلك المقاتلون الشباب. «حزب الله» يعتبر استخدام المقاتلين الشباب في المعارك، في العادة، تطوراً إيجابياً، لأنه يمنح هؤلاء المقاتلين خبرة عسكرية قيّمة. ومع ذلك، فهذه الاستراتيجية لا تعمل بنجاح إلا عندما يكون التدخّل على نطاق محدود. لكن في سورية، تكبّد «حزب الله» خسائر في الأرواح تقدّر بالآلاف، ربعهم من قوات النخبة في الحزب (اعترف الحزب نفسه بخسارة بضع مئات من مقاتليه في سورية، ولكن على الأرض تقدّر التقارير الواردة من مصادر أخرى أن الرقم أكبر من ذلك بكثير. ولم يؤكد أي مسؤول وجود هذه الأرقام لأن «حزب الله» يحرص على عدم نشر معلومات حسّاسة عن جناحه العسكري). وقد أدّى ذلك إلى اعتماد الحزب على المقاتلين الشباب بدافع الضرورة لا بدافع الاستراتيجية، وأضعف قدرته العسكرية.
تسبّبت الخسائر التي تكبّدها «حزب الله» بدرجة من عدم الارتياح داخل الطائفة الشيعية في لبنان، التي دفعت ثمناً باهظاً خلال المواجهة بين «حزب الله» وإسرائيل عام 2006. على رغم ذلك، لن يؤدّي عدم الارتياح إلى ظهور معارضة علنية. فقد شكّلت استمالة مكونات هذه الطائفة وتخويفها جزءاً من استراتيجية «حزب الله» طيلة فترة وجوده، وتمكّن من إسكات مَن حاولوا تأسيس أحزاب سياسية أخرى داخل الطائفة الشيعية، ومن السيطرة على الحزب السياسي الشيعي الآخر الموجود في لبنان، «حركة أمل»، بحيث أصبح «حزب الله» الصوت الفعلي الوحيد للشيعة اللبنانيين. غير أن الحزب يشعر الآن بأنه محاصر نتيجة الصراع السوري، ولا يمكنه إنهاء تورّطه فيه من دون توجيه من المرشد الأعلى في إيران، لأنه وفقاً لنظام ولاية الفقيه الذي يشكّل «حزب الله» جزءاً منه، لا يمكن أحداً سوى الولي الفقيه أن يتخذ جميع قرارات المشاركة في الحرب. وطالما أن إيران ترى أهمية في دعم نظام الأسد عسكرياً، سيبقى «حزب الله» في الميدان في سورية.
لا يستطيع «حزب الله» الانسحاب من سورية إلى أن يتم التوصّل إلى حلّ للصراع السوري يكون مقبولاً بالنسبة إلى إيران. ومن المرجّح أن يكون هذا الحلّ تسوية سياسية تباركها الأطراف الخارجية المؤثّرة (المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وروسيا) وتؤدّي إلى تشكيل نظام حكم جديد يحافظ على مصالح إيران. وبما أن سلاح «حزب الله» هو العمود الفقري لقوته السياسية، فإن إيران لن تقبل حلاً للنزاع السوري من شأنه أن يهدّد شريان الحياة هذا. وهذا يعني أن وضع «حزب الله» كأقوى لاعب سياسي في لبنان سيتعزّز. لكن في الوقت نفسه، وفيما يلوح الاتفاق في شأن البرنامج النووي الإيراني في الأفق، فإن قبول المجتمع الدولي المتوقّع لإيران في صفوفه سيكون على حساب خسارتها حرية التصرّف في منطقة الشرق الأوسط. وكلما زاد ارتباط إيران بالمجتمع الدولي، وجب أن تكون عرضة للمساءلة على تصرّفاتها الداخلية والخارجية. بالنسبة إلى «حزب الله»، هذا يعني فرض قيود جديدة على قدرته على العمل في الداخل وكذلك في الخارج. وهكذا، فإن مستقبل «حزب الله» بعد انتهاء الصراع السوري ينطوي على آفاق أكثر تواضعاً. فللمرة الأولى في تاريخه، سيضطرّ الحزب لأن يأخذ في الاعتبار تأثير سلوكه في موقف إيران الدولي، لأنه إذا كان سلاح «حزب الله» خطاً أحمر بالنسبة إلى إيران، فإن عافية إيران هي الأخرى خط أحمر بالنسبة إلى «حزب الله».
* كاتبة لبنانية ومديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت