مرة أخرى تبدو الدنيا في جانب، وبعض اللبنانيين في جانب آخر. وكأن القاعدة هي أن يكون وهم التميّز رديفاً «شخصياً» للقصور الذهني عند ذلك البعض، بحيث لا يمكنه أن يرى شيئاً عامًّا إلاّ من زاويته الخاصة. وهذه الزاوية … زاوية ومقفلة. ولأنها كذلك لم توصل واهماً الى أبعد من وهمه بل لم تفعل سوى إضافة المزيد من العفن على ذلك الوهم.
والأمر سيّان ومرحّب به، لولا أن تأثيراته تطال الشأن العام للبنانيين وبالمعنى السلبي التام.. أي ان «حزب الله» مثلاً لا يرى ولا يريد أن يرى ما يجري في سوريا واليمن وغيرهما إلا من منظاره الايراني. وتلك حالة «فدائية» خالصة. بحيث أن تلاعبه بأرواح ناسه أولاً، وباستقرار اللبنانيين عموماً وثانياً، كما بالمصالح الوطنية التي تجمعه مع غيره، في بيئة شديدة التنوّع والتعقيد، لا يعني له شيئاً طالما أن مصلحة «الولي الفقيه» تقتضي ذلك التلاعب وما هو أكثر منه.
وكان يمكن الزعم والادعاء، بأن لذلك الحزب الحق في الالتحاق والاعتناق والارتزاق ضمن الحدود العامة «المعروفة» في الجمهورية اللبنانية منذ انفجار الحرب الأولى في العام 1975.. وبالتالي اعتماد الأطر ذاتها التي سبق واعتمدها غيره مع الخارج وإزاء الخارج لدواعٍ فرضتها الحرب ذاتها.. أي ضرورات التجنيد والحشد والتعبئة والتسليح ثم تمويل ذلك كله. وكان يمكن الذهاب الى أبعد من ذلك الحكم، بحيث تُضاف اعتبارات الوصل العقيدي (والمذهبي في حالته) مع إيران، على اعتبارات السياسة والجغرافيا المحكومة بالنزاع المباشر مع إسرائيل..
كان يمكن لتلك الأسباب التخفيفية، أن تُطرح لتوصيف «حالة» «حزب الله» ثم القبول النسبي بها، تبعاً لطبيعة الاجتماع الأهلي اللبناني. ولأحكام الضرورة التي تقضي وتأمر بحفظ الاستقرار مهما كلف الأمر. ولإبقاء اللبنانيين متنعمين بنعمة هدوء أسطوري، ولا أغلى منه ولا أحلى!.. كان يمكن ذلك مع الاحتفاظ في الوقت نفسه، بهيبة الوقار النفسي واحترام الذات والتأكد التام من ضمور أي شبهة بإلحاق أي أذى أو جرح بالضمير الحي… لكن في حالة «حزب الله» «فرادة» لا تسري عليها كل تلك المعطيات، بل حتى جزء منها!
هو الحزب الوحيد في التاريخ «الحربي» اللبناني الحديث، الذي لا يضع في اعتباره وفي قراره أي شيء له علاقة بأي مصلحة لبنانية، بما فيها مصالح بيئته هو!
كل القوى والأحزاب التي شاركت في الحرب انطلقت من دوافع ذاتية مقدّسة الى هذا الحد أو ذاك! حتى شعار اليسار (السابق) الخاص بالدفاع عن «المقاومة الفلسطينية» ما كان له أن يسري من دون إضافة محلية تُعنى بـ»إصلاح» النظام اللبناني!. كذا الحال بالنسبة الى اليمين (السابق) بحيث أن الرئيس المنتخب بشير الجميل عندما وجد أن مطالب إسرائيل أكبر من قدرة الكيان الميثاقي على حملها، رفضها تماماً.. ودفع حياته ثمناً لذلك الرفض!
القصة مع «حزب الله» انه في مكان آخر تماماً: تطلب منه إيران «خدمات» دموية في سوريا فينفذها منشرحاً! تطلب منه خدمات في العراق فيذهب في الانشراح حتى الجنون! تطلب منه خدمات في اليمن فينخرط فيها كأنه أبو اليمنيين منذ بدء الخليقة! تطلب منه شتم العرب والتطاول على السعودية فيفعل ذلك وكأنه يصفّي ثأراً قديماً قِدَم قحطان وعدنان! تطلب منه غداً أو بعده، فتح معركة مع إسرائيل فيفعل ذلك، ويخوّن كل من يسأله عن لبنان وأهله! وعن دماره وعمرانه، وعن معاناته ومصائبه وعن تنوعه وتعقيداته، وعن مصالحه وحقوقه!
فرادة «حزب الله» أسطورية خالصة، وإعجازية لا نظير لها.. «فدائية« لا عبث أكبر منها ولا أخطر!