بمعزل عما يمكن ان يفضي اليه الحوار الذي بدا للتو بين “حزب الله” و”تيار المستقبل”، وبغض النظر عما اذا كان صورة شكلية او مضمونا جوهريا يمكن البناء على نتائجه خصوصا بعدما وسع الطرفان مستوى تمثيلهما فيه، فالواضح ان صاحب الراية الصفراء يعتبر انه يدخل من خلال هذه المحطة الحوارية المهمة بكل المعايير طورا جديدا من اطوار علاقته بالآخرين، وتحديداً بالطرف الذي تنازل واياه في اختبارات قوة واشتباكات سياسية وغير سياسية مدى قرابة عقد من الزمن.
هذه الصولات والجولات التي اتسمت بالشراسة، كانت مبعثا لانقسامات عمودية حادة في الحياة السياسية اللبنانية، ومصدرا من مصادر تعثّر دورة هذه الحياة.
“حزب الله” يلج عتبة الحوار ضمن فلسفة ورؤية جلية عنده لموضوع التلاقي مع الآخر ولمسألة الانفتاح على الخصم، اذ انه يعتبر انه لم يكن يوما البادىء بفتح باب الخصومة والعداوة وصولا الى حد القطيعة مع التيار الازرق وحتى مع سواه من القوى المنضوية تحت عباءة فريق 14 آذار، وانه ما رفع درجة الخصومة معهم الى حد جعلهم في مرتبة العدو، بل كان يحرص من خلال مساجلته لهم على ترك مساحة تتيح له فتح نوافذ التحاور معهم انطلاقا من التلاقي بين قوى وشرائح تتساكن على مساحة جغرافية واحدة وتتفاعل في وحدة حياة قدر وليس خيارا .
ولا ريب في ان الحزب قد اكب اكثر من مرة على قراءة متأنية لعلاقته المركبة مع التيار الازرق منذ عهد مؤسسه الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى مرحلة ما بعد سقوطه شهيدا في 14 شباط عام 2005، وقد خرج من هذه القراءة بأكثر من استنتاج وخلاصة. فعلى رغم ان نواب الحزب لم يمحضوا ثقتهم يوما لحكومات الرئيس الشهيد منذ ان دخل نادي رؤساء الحكومات عام 1992، الا ان العلاقة بينهما لم تصل يوما الى حد التصادم والاشتباك خصوصا ان مساحة عمل الحزب في المقاومة كانت مصونة ومحصنة وطموحاته في السلطة والحكم لا تبلغ حدود التنافس مع الآخرين لا سيما وان الحزب كان زاهدا في العمل الحكومي سواء عن قناعة او عن اسباب وحسابات قاهرة. ومع ذلك فإن سيد الحزب السيد حسن نصرالله ما لبث ان فتح ابوابه لسلسلة لقاءات مع الرئيس الحريري، وهي لقاءات كشف عنها بعد سقوط الحريري شهيدا، وحرص الحزب لغايات ومقاصد معيّنة على القاء اضواء ساطعة عليها دليلا مسبقا على انه كان منفتحا على الحريري وان علاقتهما تجاوزت حدود البروتوكول الى فضاء الثقة والحميمية.
الصورة النمطية هذه طاولها التحول تماما بعد جريمة 14 شباط المدوية وتحديداً بعد نزول الحزب بثقله مع حلفائه الى ساحة رياض الصلح ليكون رأس حربة تظاهرة 8 اذار الشهيرة التي صارت علما وعلامة فارقة في الحياة السياسية اللبنانية كما هي تظاهرة 14 آذار.
كان الحزب مضطرا لملء الفراغ المدوي بفعل انسحاب ظل الوصاية السورية عن الساحة اللبنانية ولاخذ زمام المبادرة وليكبح جماح الفريق الآخر واستعجاله للاستحواذ على مقاليد السلطة والحكم، وقيل حينذاك ان الحزب ولج الطور الثالث من اطوار تطوره السياسي الذي بدأ في ساحات مواجهة الاحتلال الاسرائيلي عام 1982وما بعده.
لكن التوتر الذي ساد علاقة الطرفين تجمد نسبيا لبعض الوقت بفعل ما صار يعرف بالتحالف الرباعي الذي دخل فيه الحزب ودافع عنه لحسابات متعددة، وهو التحالف الذي انتج آنذاك مجلس نواب عام 2005 مكّن فريق 14 آذار من الحصول على اكثرية مريحة مكنته من تشكيل حكومة دخل فيها الحزب يومذاك كما هو معلوم. لكن هذا الهدوء لم يدم طويلا اذ بدأت بعده فصول مواجهة طويلة اتسمت بالضراوة وبالخيارات المتاحة، وكانت ابرز محطاتها احداث 7 ايار عام 2008، ثم اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري الاولى لحظة دخوله البيت الابيض لمقابلة الرئيس الاميركي اوباما. وعليه تظهر هذه السيرة المختصرة للعلاقات بين الطرفين انها كانت سياقا معقدا ومركبا ذا طبيعة تصادمية متوترة على كل المستويات وبلغت في بعض مراحلها حد تفكير كل منهما بتهميش الآخر او على الاقل توجيه ضربة قاصمة اليه تفضي الى تحجيمه تمهيدا لتطويعه.
هذا المآل وان اظهر الحزب في موقع القوة الراسخة والوازنة، الا انه اتاح لخصمه محاصرته على مستوى الطائفة السنية، خصوصا بعدما وجهت المحكمة الخاصة بلبنان الى بعض كوادره العسكرية البارزة تهمة الضلوع في عملية اغتيال الرئيس الحريري. وبناء على كل هذه المعطيات، فإن الحزب لايخفي انه يعتبر نفسه الاكثر استفادة من انطلاق رحلة حواره مع “المستقبل”، وانه بذلك بدأ يخرج تلقائيا من اسر مرحلة طويلة كان مضطرا ان يكون فيها في موقع المواجهة والخصومة لاعتبارات عدة تتداولها دوائر القرار والبحث فيه وابرزها:
– ان الحوار الذي انطلق مع “المستقبل” ياتي بعد التأسيس لعلاقة مع رئيس “اللقاء الديموقراطي” النائب وليد جنبلاط تقوم على محددات ومشتركات ومساحات متاحة من التناقض، ولكنها عموما اخرجت زعيم المختارة من الدور الذي تنكّبه طويلا وهو رأس الحربة والعقل الخلاق لفريق 14 آذار.
– ان الحزب خطا خطوة مهمة في اتجاه حزب الكتائب عندما استقبل نائبه عن حاصبيا – مرجعيون علي فياض رئيس الحزب امين الجميل في الخيام . لم تكن العلاقة بالاصل بين الحزب الشيعي الاقوى والحزب المسيحي الاعرق على قدر كبير من التوتر والتصادم، فثمة قنوات اتصال ظلت مفتوحة بين الطرفين حتى في اسوا الاوقات، ولم يكن حزب بيار الجميل يشكل هاجسا لـ”حزب الله”، لكن مشاركة ممثله في حفل استقبال الرئيس الجميل في الجنوب علامة فارقة لقيت اصداء سلبية في بعض اوساط “حزب الله” التي كانت صريحة في انتقادها للحفاوة المبالغ فيها في استقبال رئيس الكتائب.
– ان الحزب عندما يجلس مع “تيار المستقبل” ومع اي مكون من مكونات الفريق الآخر، فمعنى ذلك سياسيا ان الآخرين سلموا ضمنا بخياراته الاستراتيجية مثل انخراطه في الميدان السوري الملتهب والاحتفاظ بسلاحه المقاوم، الذي سعوا طويلا لنزعه بعد نزع اي شرعية عنه.
– ان الحزب يعتبر ضمنا انه تجاوز مسالة قبول الآخرين او عدم قبولهم بدوره في مواجهة الارهاب في اي من الساحات التي يتفشى ويتمدد فيها، فالامر صار مكرسا الى درجة ان الحزب بات لاعبا اقليميا بامتياز وصار واسطة عقد محور ممتد تجاوز الكثير من الاختبارات الصعبة والتحديات الكبرى واظهر قدرة على الصمود والتصدي في ساحات عواصم اربع.
أما عن مسالة تبريد الجبهة بين الحزب وحزب “القوات اللبنانية” بزعامة سمير جعجع فهي تخضع لسلسلة اعتبارات وحسابات معينة. فالحزب ينظر الى الامر من منظارين: الاول انه ليس محتاجا لفتح ورشة حوار مع هذا التنظيم لاعتبار اساسي وهو ان القوات ادت وما زالت تؤدي دورا هجوميا على الحزب غير مبرر سوى انها تؤدي وظيفة اوكلت اليها. والثاني ان ثمة تلاقياً غير مباشر في مجلس النواب ولجانه وهو امر كاف في ظل موازين القوى الحالية.
– اما عن القوى والتيارات السنية الاخرى، فالحزب منفتح على اي علاقة بدليل انه سبق له ان مد يده الى جزء من التيار السلفي عام 2008 وابرم معه وثيقة تفاهم قبل ان يضطر هذا الطرف الى التحلل منها تحت ضغوط شتى وتاثيرات متعددة، في حين ان “الجماعة الاسلامية” اختارت هي وبناء على حسابات معينة تتصل بالشارع السني ان تصرم العلاقة التاريخية معه وتاخذ موقع المهاجم له في مناسبات شتى .
وعموما فالحزب يرى ان حواره الوليد مع “تيار المستقبل” انما هو كسر لآخر جدران الحصار والعزل التي عمل خصومه على محاصرته بها طوال العقد الماضي، خصوصا ان دولا وعواصم عربية وغربية بادرت الى الانفتاح على الحزب وترتيب علاقاتها معه تارة تحت الطاولة وطورا فوقها. وفي كل الاحوال قرار الحزب واضح بالعمل على تجفيف منابع العداء ضده وعلى تصفية المرحلة السابقة بقدر ما امكن.