كلام في السياسة |
لم يسبق أن لعب فريقان سياسيان لعبة عضّ الأصابع، فعلياً، كما يفعل الحريري وخصومه اليوم في مسألة رئاسة الجمهورية. كل منهما يمارس مجموعة واسعة من أساليب الضغط على الآخر. وكل منهما يدرك مقدار الضغوط التي يتعرض لها.
وكل من الاثنين ينتظر أن يصرخ الآخر قبله. علماً أن التفاصيل والوقائع مذهلة، وبعضها قد يحمل كوارث عدة للبلد، قبل أن تنتهي اللعبة.
يؤمن الفريق الحريري بداية أن حزب الله في أشد أزماته ضيقاً. لأسباب عدة، يمكن تلخيص بعضها بالآتي:
أولاً، على الصعيد الميداني العسكري، دخوله في وضعية الغارق في المستنقع السوري، مع بداية ظهور مؤشرات التباين بينه وبين حليفيه هناك، طهران وموسكو. إذ يعتقد الحريريون أن حقول القتل السورية باتت مثقلة بشكل ساحق على الحزب. لا نتيجة الخسائر البشرية وحسب. بل خصوصاً نتيجة انسداد الأفق السياسي والتسووي هناك. يقولون إن حزب الله أدرك منذ شباط الماضي أن الأرضية التي راهن عليها من أجل تحقيق انتصاره في الحرب السورية، بدأت تتداعى. والمقصود طبعاً تلك السيبة الثلاثية بينه وبين شريكيه في الحرب، الجيشين الروسي والإيراني. يشرح الحريريون أن حزب الله يدرك، بلا شك، المغزى السياسي والعسكري لذهاب الروس إلى هدنة مع الأميركيين في سوريا يومها، من دون التنسيق مع الإيرانيين. ويدركون بالتأكيد ما معنى أن يفرض الروس على السوريين وقف معارك الشمال الرابحة فجأة. ثم تركهم لهم في بؤر حلب من دون غطاء جوي. وينسب الحريريون إلى حزب الله، أيضاً، أنه يعرف بشكل قاطع أن كل الزيارات الثنائية والثلاثية التي حصلت بين طهران وموسكو ودمشق، لم تؤد إلى حل التباين جذرياً.
أكثر من ذلك، يقول الحريريون إن حزب الله التقط منذ آذار الماضي مغزى أن يسارع الرئيس السوري إلى نفي خبر نشرته جريدة «الأخبار»، ينسب إليه قوله إن لا حل سياسياً. كما المسارعة السورية أيضاً إلى نفي خبر المسودة الروسية للدستور السوري الجديد. كل هذا معناه، بحسب الحريريين، أن الأسد بات أكثر من يدرك اختلاف الحسابات الروسية ــــ الإيرانية على أرضه. وهو يتعامل معه بدقة. فيما حزب الله يتعامى عن الموضوع.
سبب ثان للأزمة عند حزب الله، ودوماً بحسب الحريريين، القانون الأميركي ضده، أو قانون «هيفبا». يقول هؤلاء إن قيادة الحزب تدرك خطورة الأمر. بدليل تناوله مراراً على لسان السيد نصرالله، وتناوله مجدداً غداً الجمعة، كما يرجحون. لأن الحزب يعرف أن هذا القانون لم يولد في لحظة ترف أو مصادفة. بل جاء ثمرة جهود دولية كبيرة. عادل الجبير وعبدالله بن زايد و»اللوبي» المعروف، ومساهمات لبنانية فاعلة… كلها أدت إلى هنا. حيث لا فكاك للشيعة المؤيدين للحزب، أو حتى غير المؤيدين له، من براثن هذا الاضطهاد المالي العالمي.
فضلاً طبعاً عن التأثير المتراكم للعاملين السابقين في البيئة الحاضنة للحزب، كما في المزاج الشيعي أولاً، ومن ثم اللبناني العام، ضغطاً متزايداً على سلاح الحزب وأدواره… هكذا يخلص الحريريون إلى أن حزب الله في وضع أسوأ مما كان عليه إبان أقسى الحروب عليه. وهو ما سيدفعه، عاجلاً أم آجلاً، إلى التفاوض والتسوية والتنازل. حتى أن الحريريين بدأوا يفكرون أنه سيكون بإمكانهم فرض مرشح رئاسي على حزب الله، لا عون ولا فرنجيه. وهو ما نفش ريش بعض المرشحين الآخرين في الفترة الأخيرة، وما أثار امتعاضاً مكتوماً بين الحريري وحلفائه القدامى والجدد رئاسياً… ولو على خلفية التفكير الحريري من طرف واحد.
في المقابل، يعتقد خصوم الحريري أن الرجل بات على حافة الانهيار الكامل. بقرار سعودي مباشر أم نتيجة طبيعية لتطور الأمور والمواقف والعلاقات في ظل القيادة السعودية الجديدة، يعتقدون أن الحريري انتهى. يروون أن كلام محمد بن سلمان إلى بلومبرغ لم يكن تدبيجاً لغوياً. حين دعا دائني أوجيه للذهاب إلى القضاء، كان يعطي رسالة سياسية أنه سيوصل الحريري نفسه إلى المقاضاة في المملكة. بعدها كرّت سبحة الانهيارات. جولة السفير العسيري على القيادات السنية، خروج أزمة «أوجيه» إلى الاعلام السعودي المضبوط جداً، الانتخابات البلدية وتداعياتها التنظيمية، استقبال بهاء الحريري لأشرف ريفي… كلها مؤشرات إلى أن مظلة ما رفعت عن الرجل، وإلى أن انهياره بات متسارعاً. يقول الخصوم أكثر إن ملامسة الإفلاس الحريري باتت ثلاثية الأضلع: مالية، سياسية وشعبية. وهي أضلع متفاعلة متضاعفة في تفاعلها كل يوم. يقولون أكثر إن شركة الخلوي التركية طارت. والطائرات الخاصة معرضة للبيع قريباً. فضلاً عن قروض الأشقاء وأراضي صيدا مما يلفه بئر من أسرار، يقول الخصوم إنهم يعرفونها بالتفصيل.
لكل هذه الأسباب، يقول خصوم الحريري، حصل ما حصل في بيروت. من الرملة البيضاء إلى النفايات وسوكلين إلى الإنترنت ومغارتها، وصولاً إلى هبة المليار غير الضائعة… كل هذه العوامل ترسم المأزق الحريري العميق والخطير، بحسب خصومه. وبرأيهم أنه ذاهب إلى التفاوض، حين تنتهي المكابرة، أو يعطى الغطاء السعودي الغائب بدافع اللامبالاة، لا الفيتو.
لعبة عض أصابع هي. مع احتمال أن تؤدي، في حال سيطرة الجنون والغرائز، إلى بتر بعضها!