تمهيداً لجولته المرتقبة بين العواصم العربية، خاطب وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، المجتمعات العربية، مستخدماً أدبيات سياسية لم تعتد شعوب المنطقة على سماعها من مسؤولين إيرانيين منذ عقود. مقالة ظريف تطرح تساؤلات حول «شيزوفرينيا» (انفصام) في خطاب محور «المقاومة والممانعة»، بين معادٍ للسعودية ولشعوب المنطقة الـ»تنابل والفاشلين والكسالى»، وبين دبلوماسية متواضعة، قرّرت، وفق الأجندة الإيرانية الإصلاحية، ان تنطلق من توصية «الجار ثم الدار».
خطاب ظريف، الذي أكّد ضرورة «حل الخلافات سلمياً ومنع التهديد أو استخدام القوة»، لا يمكن أن يكون صادراً عن الدولة نفسها التي عبّر عن موقفها السيّد علي خامنئي قبل اسابيع، يوم توعّد بأن «يمرّغ أنف السعودية بالتراب»! كلام ظريف عن ضرورة «احترام سيادة ووحدة وتراب جميع الدول واستقلالها السياسي وعدم انتهاك حدودها»، لا يمكن أن يكون صادراً عن دولة عبّر باسمها الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله، يوم قال: «إذا عنّا 100 مقاتل بسوريا رح يصيروا 200، وإذا 1000 رح يصيروا 10 آلاف». كيف يمكن ان ينطبق كلام ظريف على «حزب الله» الذي محا الحدود اللبنانية متّجهاً الى سوريا لمحاربة شعبها الى جانب الاسد، ومتجاهلاً اي قيمة لقرار الدولة اللبنانية وسيادتها؟ وكيف ينطبق على الجنرال قاسم سليماني، صاحب الخبرة العسكرية الطويلة على الجبهات العربية؟ كما ان كلام وزير خارجية ايران عن وجوب السعي إلى إحلال السلام والاستقرار في المنطقة، وتشكيل مجمّع للحوار الإقليمي، لا يمكن ان يكون صادراً عن دولة تحدّث نصرالله باسمها قائلاً: «إن معركتنا مع الإرهاب التكفيري وجودية، والسعودية هي راعية لهذا الإرهاب»!
ماذا لو أُجبر نصرالله على تبنّي خطاب ظريف؟ كيف يُمكن أن تحاور ايران من وصفهم نصرالله بـ»الإرهابيين والتنابل والفاشلين والكسالى»؟! كيف يمدّ «سيّد المقاومة» يده الى دولة «هي أفشل وأعجز من أن تنجح في تحقيق أي هدف؟»، على حدّ قوله، اي مسوّغات وتبريرات سيُقدّمها السيّد لجمهور يُستنزف على الجبهات، بعد ان وعدهم «بأن الزمن هو زمن انتصارات» وبأن «زمن الهزائم قد ولّى»؟
انطلقت التبريرات بالفعل، لكنها أخذت شكلاً «كوميدياً» يفتقد الى ادنى مقوّمات الإقناع. يخرج مراسل قناة «المنار» في طهران ليقول: «إن الإرهاب هو عدو مشترك بين السعوديين والإيرانيين»! عدو مشترك؟ أوليست السعودية راعية للإرهاب التكفيري كما قال السيّد نصرالله؟ ومن ثمّ يستفيض أحد مُنظّري «المنظومة الإعلامية» لـ»حزب الله» في شرح ضرورة التعاون مع الرياض، فيقول: «إن ايران وروسيا يحاولان إنقاذ السعودية من الانهيار»! لكن لماذا هذا الفائض من «الإيجابيات»؟ يبرّر الرجل وجهة نظره بالقول: «إنّ انهيار السعودية يعني قيام نظام إرهابي مكان النظام الحالي». هكذا بالحرف. هل هذا إقرار من محور الممانعة بأن السعودية ليست راعية للإرهاب كما اتّهمها نصرالله؟ ألم يقل هذا المُنظّر قبل أسابيع قليلة: «إن الحل الوحيد لحلّ أزمات المنطقة يمرّ بإسقاط السعودية»؟ أهكذا يقنع إعلام «حزب الله» جمهوره بـ»الاستدارة»؟
على الرغم من التبريرات «المضحكة والضعيفة»، إلّا أن هناك أصواتاً «مشاغبة» لم تُجارِ ظريف في خطابه وعناوينه. فبعد ساعات قليلة على تأكيد وزير خارجية إيران، ضرورة احترام استقلال وسيادة ووحدة دول المنطقة، سوّقت «المنظومة الإعلامية» لـ»حزب الله»، معلومات مفادها ان «صفقة هي الأكثر تعقيداً في تاريخ الحروب المعاصرة، تقوم على إخراج 40 الفاً من بلدتي الفوعة وكفريا الشيعيتين في ريف ادلب مقابل انسحاب النصرة واحرار الشام من الزبداني». وتختم مصادر «المنظومة» باعتقادها ان «التبادل» هذا من شأنه ان يكرّس التقسيم في سوريا. كيف يتحدّث ظريف عن استقلال ووحدة الدول، ومن ثمّ يخرج إعلام «حزب الله» ليسوّق لمشروع تقسيم سوريا؟ وكأن هذا التسويق فيه رسالة من جناح ايراني «محافظ» يقوده قاسم سليماني الى الدبلوماسية الاصلاحية الايرانية، ومفاده ان تقسيم سوريا، بعد ان تلاشى الامل باسترجاعها كاملة تحت حكم الاسد، فيه مصلحة لإيران.
وجّه ظريف خطاباً الى المجتمعات العربية في توقيت لافت. توقيت ترى فيه مصادر مواكبة للحراك في المنطقة لـ»المستقبل»، نوعاً من انواع المشاركة في المحادثات السعودية-الاميركية-الروسية في الدوحة. قدّم ظريف نظرية مختلفة في عالم السياسة الايرانية. «الأمن المستدام لا يتحقق بضرب أمن الآخرين»، يقول وزير خارجية إيران. نظرية ظريف حكمت قيام الاتحاد الاوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، «نربح معاً او نخسر معاً». فهل يستطيع «المُفاوض النووي الشرس» ان يسوّق مشروعه الاصلاحي داخل طهران وعند قاسم سليماني؟ هل باستطاعته الترويج لنظرية «السعي الى تحقيق السعادة في المنطقة»؟! اختبار السعادة هو اخطر اختبار يواجهه الاصلاحيون. فالسعادة وخطابات تبرير الموت التي عمل المحافظون عليها لعقود طويلة، لا يلتقيان. قد يتبيّن في نهاية المطاف ان التناقضات الايرانية-الايرانية داخل «الدار» هي اكبر من التناقضات السعودية-الايرانية عند «الجار».