بعد الاتفاق الأميركي- الإيراني والانخراط الروسي في سورية المتوافق عليه ضمناً مع واشنطن، تكثر التساؤلات عن إمكان استمرار «الحصانة الدولية» التي وَقَتْ لبنان حتى الآن من عدوى حرب الجيران وأبقت على توازنه الهش، ذلك أن البلد الذي يغوص أقوى أطرافه بعمق في المستنقع السوري، لا يملك الحد الأدنى من الحصانة الداخلية لمنع انزلاقه بالكامل إليها وسط ارتسام حدود الدويلات السورية أكثر فأكثر.
ومرد هذه التساؤلات إلى أنه ليس في لبنان أي مرجعية شاملة بالمعنى السياسي والطائفي والاجتماعي، وحتى الاقتصادي، فهذه كلها موزعة على أكثر من جهة، مع خلل فادح لمصلحة طائفة معينة، فيما الوضع في الجوار السوري، على ما هو واضح في دوافع التدخل الروسي وتبعاته، يتطلب توحيد القرار اللبناني بيد جهة واحدة نافذة، تستطيع متى حان الوقت الانضمام الى المحور الجديد بقيادته الروسية- الإيرانية المشتركة وخدمته.
ولطالما كانت الأوضاع في لبنان تتغير تبعاً للتقلبات في الجوار السوري، لكن هذا التغيير شهد أحياناً محطات حادة، مثلما حصل في 1975 عندما اختلطت الأزمة الاجتماعية المستفحلة بالمأزق السياسي الإقليمي. يومها تحول الاحتقان الداخلي إلى حرب أهلية شارك فيها الفلسطينيون، فيما الأحزاب اليمينية واليسارية غافلة أو متورطة في ما كان يحاك في دمشق للبلد الصغير، وما ينصب مع الأميركيين، وعبرهم مع إسرائيل، من فخاخ لتغيير مصيره. أو مثلما حصل مرة أخرى في 1989 مع اتفاق الطائف الذي كرس الهيمنة السورية على لبنان وشرّع تدخلها في تفاصيله السياسية والاقتصادية عبر شرذمة جماعاته الأهلية وتفتيت قرارها.
واليوم، وعلى رغم أهمية الحراك الاجتماعي في وجه نظام التوافق الطوائفي المتعثر، إلا أن العوامل التي تحدد مصير لبنان مرتبطة أساساً بالتجاذبات الإقليمية المحتدمة في سورية والعراق واليمن وسائر جبهات المواجهة بين المحورين العربي والإيراني. لكن التأزم الداخلي قد يستخدم منصة أو ذريعة لتحديد الخيارات والمسارات المستقبلية.
ولعل «حزب الله» وحلفاءه المشتركين مع بشار الأسد، وبينهم خصوصاً ميشال عون بحيثيته الملتبسة، يجدون في الاحتجاجات على الوضع المعيشي المتدهور، والتي تفضح فشلهم مع غيرهم من أقطاب النظام، فرصة مواتية للانقضاض على ما تبقى من دولة مشلولة وحياد خجول، وفرض أنفسهم بديلاً من «احتمالات الفوضى والضعف».
وتندرج في هذا الإطار تصريحات مسؤولي الحزب المتكررة عن الإتيان برئيس «قوي يلتزم تعهداته»، ومطالبتهم بقانون انتخابي يكون فيه لبنان دائرة واحدة ويُنتخب الرئيس مباشرة من الشعب، وربطهم تفعيل العمل الحكومي بإقرار تعيينات أمنية محددة تشمل أشخاصاً بعينهم، واتهامهم المتظاهرين المسالمين وقياديي الحراك الشعبي المطالبين بحلول فورية لمشكلات ضاغطة ناجمة عن فساد النظام ورجالاته بـ «الداعشية» وبالارتباط بـ «الاستخبارات الأميركية»، وتحذيراتهم من «الخطرَيْن الوجودييْن الإسرائيلي والتكفيري» اللذين «يتجاهلهما دعاة الإصلاح».
ويعني هذا عملياً أن الحزب الوحيد المسلح الذي يحول دون انتخاب رئيس، إنما يضع شروطاً مستعصية للإبقاء على الفراغ تمهيداً لملئه، مثل أن يلتزم الرئيس العتيد ثلاثيته الشهيرة، وأن ينتخب من بيئته الحاضنة، وأن تكون لرجال الحزب وحلفائه السيطرة التامة على الدفاع والأمن وأجهزتهما، وخصوصاً أن يسارع المحتجون في الشارع إلى إثبات ولائهم لـ «المقاومة» وتجير شعاراتهم وجهودهم لخدمتها، وإلا «واجهوا مصير الخونة المحتوم».
ليس ما يشغل «حزب الله» الأوضاع الاجتماعية المتدهورة التي تطاول قسماً كبيراً من جمهوره، بل كيف سيُلحق لبنان بالكيان الآخذ في التبلور عند حدوده الشمالية والشرقية بحماية روسية.