أما وقد ضغط حزب الله لمنع بّث مقابلات مع ثلاثة من مقاتليه أسرتهم جبهة النصرة٬ فمن المفيد استعادة وقائع مشابهة حصلت في السنوات الماضية. ففي العام 2004 مثلاً لم تكن أخلاقيات الصحافة بشأن الأسرى لتردع حزب الله عن إجراء مقابلة عبر إعلامه مع الضابط الإسرائيلي الأسير لديه حينها «الحنان تننباوم» الذي أفرج عنه لاحًقا بصفقة تبادل مع إسرائيل. جهد الحزب آنذاك في إظهار «المعاملة الحسنة» التي اعتمدها مع أسيره التابع لـ«العدو الإسرائيلي».
قبل أيام٬ مارس تنظيم النصرة الأمر نفسه٬ حين سمح للصحافية اللبنانية كارول معلوف بأن تقابل أسرى حزب الله لديه وتظهرهم في مقابلة بثتها قناة «إم تي في».
ففي هذه المقابلة أيًضا برز جهد للقول إن «النصرة» تعامل أسرى الحزب بشكل جيد.
في الحالة الأولى بدا لحزب الله مبرر إجراء مقابلة مع أسيره وتبني روايته الدعائية. في الحالة الثانية٬ أي حالة «النصرة»٬ ارتبك الحزب وضغط بشراسة لمنع بث الحديث المسجل مع ثلاثة من عناصره الأسرى بحيث تراجعت القناة تحت الترهيب عن بثها كاملة واكتفت بدقائق منها مع اختيار مضمون تم التوافق عليه..
ما بين الحادثتين شهدنا في لبنان وسوريا سيلاً من مقابلات مع مخطوفين وأسرى سواء أكانوا مدنيين أم عسكريين تهافتت وسائل الإعلام على الظفر بسبق لقائهم من دون كثير اهتمام لأخلاقيات تحتمها مثل تلك المقابلات٬ فلعب إعلاميون وإعلاميات دور المحقق والمرجع الأخلاقي والسياسي.
في لبنان جرت مقابلات مع أسرى برضا حزب الله ودعمه٬ أعني تلك التي تمت في بداية قضية مخطوفي أعزاز اللبنانيين من قبل أحد فصائل المعارضة السورية٬ فجرى حينها رّد محلي عبر خطف أتراك وسوريين ولبنانيين وعرب من قبل عائلة «المقداد» المقربة من الحزب والتي بدت حينها ماسكة بزمام الأمن والإعلام وسمحت لصحافيين بمقابلة الأسرى لديها على نحو مهين تماًما. حينها لم يحرص الحزب أبًدا على منع بث تلك المقابلات٬ بل على العكس بدا راضًيا عن الخطف أولاً وعن المقابلات وعن التهميش الحاصل لمبادئ القانون والدولة والحقوق..
كل الإشكالية المهنية المتعلقة بمقابلة سجناء٬ لم تدفع حزب الله إلى مناقشة حق الأسير وأمنه وخطيئة استثمار قضيته في الدعاية لأطراف مسلحة أو سياسية.
فالمضمون الأخلاقي والمهني لمسألة مقابلة أسرى حرب في الإعلام أمر إشكالي لكن المعيار الأساس فيه هو المصلحة الإنسانية للأسير نفسه ومدى التشويش والارتباك الذي يمكن أن تسببه معلومات قالها في الأسر خصوًصا أن الطرف الخاطف يستخدم تلك المقابلات بهدف الدعاية. فمهما كانت هوية الأسير سواء أكان مقاتلاً أم مدنًيا يبقى التوازن ما بين حرية التعبير وحقوق الأسرى وحمايتهم أمر أساسي. تلك القاعدة العامة٬ لكن كل الحالات التي وردت أعلاه لم تراِع ذلك المبدأ وفي حالة حزب الله نفسه فهو أول من انتهكها. اليوم ليست غضبة الحزب بهدف حماية أسراه أو الذود عن حقهم ومصلحتهم٬ فالمعضلة هي أن تلك المقابلات٬ مهما تضمنت من معلومات أكانت تحت الضغط أم حقيقية٬ تفرض أمًرا أساسًيا يتعلق بنقاش علني للثمن الباهظ الذي يجبر الحزب بيئته الحاضنة على تحمله سياسًيا وأمنًيا وأخلاقًيا. فالتعتيم المفروض منذ بدأ الحزب قتاله إلى جانب بشار الأسد في سوريا لا يريد الحزب إماطته٬ بل هو يسعى لأن تبقى الجنازات التي تتقاطر إلى بلدات لبنانية جنازات صامتة وأن يستمر حظر السؤال ومنع مقابلة أهالي المقاتلين وأن يكتفي هؤلاء بالحزن والندب من دون كثير ضجيج في الإعلام.
أخلاقًيا٬ لا يمكن تجاوز ظروف المقابلة مع أسرى الحزب ولا التسليم بمضمونها٬ لكن هلع حزب الله وقلقه وضغطه هو فعلًيا ما يستحق السؤال والإضاءة..