فدرالية “حزب الله” المقنّعة
“حزب الله” بات يلعب على المكشوف محصِّناً، بلا فدرالية معلنة، بيئته غذائياً وصحياً وتربوياً ومصرفياً ومالياً وقضائياً. أما عسكرياًٍ فهو أعلن ومن زمان: الأمر لي. كل ذلك والدولة اللبنانية “كوما” واللبنانيون، من غير بيئة “حزب الله”، عليهم أن يبلعوا موسى فساد السلطة وطموح “الحزب” وتفاعلات كل ذلك على اقتصادهم ومالهم وغذائهم ومصيرهم!
حسنا فعل “حزب الله”. فالناس بحاجة والجوع يكبر والفاقة تزيد. لكن، هل نحن في جمهورية “حزب الله” أم في الجمهورية اللبنانية؟ هل يأكل اللبناني إذا كان من جمهور الحزب الأصفر أم إذا كان لبنانياً منذ أكثر من عشر سنوات؟ هذا هو لبّ الموضوع بلا مزايدة ولا زيادة ولا نقصان. فالسيد حسن نصرالله لا يقبل أن تجوع بيئة المقاومة لكن ماذا عن بيئة اللبنانيين؟ أين نعيش: في بلاد الماو ماو؟ في بلد يعيش بالصدفة ويدفع أثمان غيره، وحروب الآخرين، ويتنازل عن واجباته ويقوم “بالسبعة وذمتها” وينادي بالعفة؟ وافق هذا الشعب اللبناني “المزنطر” أن يُصنف الأكثر فقراً تحت جنح وزارة الشؤون الإجتماعية كي ينال “قرشين”، وبدل أن يتحقق له ذلك يطل “حزب الله” موزعاً بطاقة السجاد على ناسِهِ الأكثر فقراً! حسناً فعل “الحزب” بتأمين “تحويجة” الشهر الى ناسه لكن ألم تفكر الدولة عن “لزومها” لدى الناس، عموم الناس، أم أن سيناريو اضمحلال الدولة وبروز الدويلة وصل الى خواتيمه؟
هنا لبنان؟
لا تزيد مساحة لبنان عن 10452 كيلومتراً مربعاً لكن من الأشرفية الى الغبيري وبرج البراجنة وحارة حريك وطريق المطار مسافات ضوئية شاسعة. البلد بلدان أو لنقل بلداناً ولكل منطقة خصوصياتها. نعبر من ساحة ساسين في الأشرفية. محال كثيرة أقفلت نهائياً ومحال كتبت على أبوابها الخارجية: we never stopped rising again. أهالي هذه المدينة لا يعرفون، من زمان، الإستسلام، حتى ولو تُركوا بلا عناية. بشير الجميل يرفع يده محيياً ومنذراً في صورة مذيلة بعبارة: ترتفعون ويبقى لبنان. ننزل صوب أوتيل ديو. السيارات متسخة. كلفة غسيل السيارة باتت تزيد عن 25 ألفاً. حياة اللبنانيين تغيرت كثيراً بين أمس واليوم وبات يُحسب، حتى لغسيل السيارة، ألف حساب. نمرّ أمام تعاونية الجيش ولأول مرة تلفتنا عبارة: تعاونية للعسكريين والمدنيين. رجلٌ في العقد السابع واقف على مستديرة الطيونة، تحت عمود كهربائي عليه إشارة نحو شارع الرئيس جمال عبد الناصر، يُحلل الوضع الحكومي، كمن يلقي خطاباً وراء منبر. فهمنا منه: الثلث المعطل و”إخوات…”.
ندخل الى الشياح. نمر أمام مخابز الوفاء وحلويات الإخلاص ومحطة الأيتام وهيئات النور… وتزيد كلما توغلنا، عند كل مفصل وزاوية ورصيف وواجهة، مراكز التبرعات: قجة الأيتام. تبرعات مائدة زين العابدين. جمعية المبرات الخيرية… رمضان يقترب وعبارة “إستنزلوا الرزق بالصَدَقة” تحث على التبرعات. نسأل مواطناً تائهاً يتصبب عرقاً عن صعوبات الحياة؟ نسأله عن مخازن النور وبطاقة سجاد؟ يمضي في طريقه على عجل مردداً: “قرفان من كل الدني”. كثيرون في حال “قرف” واللبنانيون في الواقع غير اللبنانيين على “السوشيل ميديا” وتبعدهم قساوة الحياة عن ثرثرتها.
أهل الضاحية مثل أهل الأشرفية. كل اللبنانيين يعانون من ثقل الوضع الإقتصادي. نمرّ أمام جمعية مؤسسة القرض الحسن للإدارة العامة. نتذكر أن لـ”حزب الله” مصرفه أيضاً غير مصارفنا. نتذكر سيارات الإسعاف التي صفها “حزب الله” قبل ثمانية أشهر مستعرضاً قوته “الصحية” في مواجهة كورونا في “بيئته”، والإجراءات التي تباهى باتخاذها لمواجهة إنتشار الوباء في مناطق نفوذه في سبيل إثبات تفوقه على الدولة الفاشلة. “الحزب” يحاول دائماً أن يثبت لبيئته أنه الدولة في قلب الدولة الفاشلة. حاجز للجيش اللبناني يقف عليه عنصر وحيد بيده هاتفه الخلوي يتسلى به. نعبر شارع الجاموس. نصل الى مخازن قاروط مول الكبرى. قاروط أقفل فرعه بسبب الوضع الإقتصادي. و”لانجري رخوصة” فتح بابه الى جانبه. وبجانب “رخوصة” تفتح “حسبة سوق النورية” أبوابها. نتجه نحو مجمع الإمام الكاظم ومجمع سيد الشهداء. أسماء وأسماء تشي أننا في منطقة متمايزة عن بقية المناطق. أسماء وعناوين ومشاهد تجعلنا دائماً نتأكد أننا في فدرالية دويلة “حزب الله”.
الموت لأمريكا. عبارات قديمة ومتجددة خرطشت على الحفافي والجدران. والى جانبها عبارة تنتشر “لبيك يا خامنئي”. ساحة القدس هنا. والوجهة فلسطين. والشرطة البلدية بلباس خاص ووحدها سوبرماركات رمال الأصلي أبو عامر تذكرنا بأن في هذه المنطقة فدرالية غذائية موجودة أيضاً. نسأل مجدداً عن مخازن النور فيجيب شباب يجلسون في قهوة: “لا نأكل ولا نشرب ولا نعيش ولا مستقبل لنا”. وماذا عن بطاقة السجاد؟ هل حصلوا عليها؟ يجيب أحدهم: “هذه لناس وناس”. فيتدخل آخر بالقول: “إنها لكل الشيعة”. يضحك ثالث عليه. ويقول رابع: “إنها لكل الناس في بيئة الحزب”.
إنها لكل الناس شرط أن يقدم الناس طلباً للحصول على البطاقة مرفقاً بصورة عن إخراج قيد عائلي وصورة عن هوية ربّ البيت. من سيحصل على البطاقة سيكون (أو سيصبح) منتمياً،عاطفياً، الى دويلة “حزب الله”. هكذا يسيطر “الحزب” على ناسِهِ وناسِ الدولة ولبنان.
المساعدة ضرورية. اللبنانيون، الى أي طائفة ومنطقة انتموا، يحتاجون إليها. لكن، أين الدولة؟ وماذا يعني أن ينتمي الناس الى “حزب” لا الى دولة؟ فهل هكذا تبنى الدول أم نحن في دولة فاشلة تركت من زمان زمام الأمور الى دويلة وتدعي أنها قائمة؟
صور الشهداء كثيرة. صور قاسم سليماني كثيرة. المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى مزروع بأعلام “حزب الله” والى جانبه افتتح مخزن النور. الدخول ممنوع على من لا يحمل بطاقة السجاد. وهذه البطاقة لا يحملها إلا من يدينون بالولاء الى “حزب الله”. مخازن النور موجودة منذ عام لكن فروعها تزداد الآن. “حزب الله” “هندس” من زمان، منذ ما قبل استفحال الأزمة، أمنه الغذائي. والآن، انتشر الكلام عن تلك المخازن من أجل استيعاب غضب البيئة الشيعية. إمرأة شيعية غاضبة من كل شيء تقول: “يدفعوننا دفعاً نحو كره الدولة والقسم باسم الحزب”. البضاعة هنا ايرانية على سورية على عراقية. وسقف بطاقة السجاد 300 ألف ليرة لكنها تعادل المليونين لأن الأسعار أقل من الخارج بنحو 70 في المئة. فكيلو الأرز بسعره القديم وهناك حسم على الصندوق بقيمة 30 في المئة. هي “تفرج” لكنها ليست أبداً الحلّ.
الحلّ بوجود دولة. ووجود الدولة ممنوع. وكيف توجد الدولة في بلاد قرار السلم والحرب فيها ليس بيدها. م. زعيتر، إبن حدث بعلبك في البقاع، كان يحمل بطاقة نور قبل أن يقرر “قضاء” الحزب إقالته منه. يقول: “وجهوا لي تهمة بسرقة رشاش كلاشنيكوف تابع للحزب، سرقه أحدهم من آل حميه، وطلبوني الى التحقيق في أمن الحزب في بيروت في مجمع الشهداء وحقق معي شيخ جعلني أكفر برجال الدين وكأنني داعشي. عصبوا عينيّ وكبلوني وسجنوني في بئر الحسن. قلت لهم أنا لست إسرائيلياً. لم يبالوا. وصاروا يرسلون إلي شخصاً في الليل من آل زين الدين لأقرّ بما لم أفعل. ثم أجروا لي محكمة أمام 40 قاضياً من “حزب الله”. ثم اتصلوا بي من مكتب التنظيم في “حزب الله” وقالوا لي: فصلت من الحزب. كنت أتقاضى 900 دولار أميركي. طلبت إعادة المحاكمة وطلب إسترحام فردّ الطلب. وكان في حوزتي بطاقة نور تخولني أن أشتري من مخازن النور فأخذوها مني”. كلام زعيتر يشي بأنه كما الأمن الغذائي والصحي والعسكري والمالي والمصرفي هناك سجون لـ”الحزب” وقضاء أيضاً. أليست هذه فدرالية؟
بطاقة نور يحملها العسكر وموظفو “حزب الله” ويزيد عدد الموظفين عن 80 ألفاً، يعني بعد قليل ويوازي العدد عدد موظفي الدولة اللبنانية.
ماذا عن مخازن النور؟ هل يعرف عنها نقيب أصحاب السوبرماركت في لبنان شيئاً؟ يجيب النقيب الدكتور نبيل فهد بعلامة استفهام. فهو لم يسبق أن سمع بها. ويقول: “عادة إذا لم تكن المؤسسات قطاعاً خاصاً لا نتعامل معها، حتى تعاونيات لبنان لم تكن تدخل في وضع (status) المؤسسات الخاصة إلا بعدما تحولت وأصبحت شركات المخازن المتحدة. حينها دخلت في إطار النقابة. وماذا عن مؤسسات رمال الأصلي الموجودة فقط في مناطق “بيئة” “حزب الله”؟ يجيب: “هي خاصة ولها مالك معروف هو عبدالله رمال وتنضوي في نقابة اصحاب السوبرماركت”. يضيف: لا أعرف شيئاً عن مخازن النور لكن كنقابة لا نعتبرها مؤسسة سوبرماركت قانونية إلا إذا كانت مساحتها تزيد عن ألف متر. ونحن لدينا 120 نقطة بيع في لبنان تنتمي الى 25 شركة. وهناك 25 ألف نقطة بيع بين دكانة وميني ماركت في لبنان. وهل من سوبرماركات أقفلت منذ ضاقت الأحوال في لبنان؟ يجيب: “لا، لم نتبلغ عن إقفال مؤسسات لكن هناك أجنحة فيها أقفلت كانت تبيع النقولات او الساعات او الهواتف النقالة أو القطع الكهربائية. أقفلت اقسام في السوبرماركات لا سوبرماركات. وهناك تقليص للمساحات التي تعرض الكماليات فقط. كانت دور السوبرماركت تعرض اكثر من ثلاثين صنفاً من المواد المستوردة اما الآن فبالكاد تأتي بأربعة أو خمسة أصناف. وهناك أصناف تباع اليوم بعبوات صغيرة تماشياً مع تقلص القدرة الشرائية لدى المستهلك اللبناني الذي ما عاد قادراً على شراء العبوات الكبيرة. فالتحديات التي يواجهها مجتمعنا كبيرة جداً”.
شراء المنتجات التي تعرض في السوبرماركات والمخازن يفترض أن تكون ضمن مواصفات ليبنور فتمر إذا كانت غذائية عبر مختبرات وزارة الزراعة اما المواد الأخرى فتمر من خلال مؤسسة البحوث الصناعية للتأكد من مواصفاتها”.
ماذا عن المواد التي تعرض وستعرض في مخازن النور؟ يجيب نقيب أصحاب السوبرماركت: “صدقاً لا أعرف شيئاً عنها. لا أعرف إذا كانت تخضع الى نظام المواصفات أو تأتي “تهريباً”علماً أن التهريب ناشط من تركيا وسوريا وحتى من أوروبا. وهناك بضاعة مزورة تأتي لأصناف مشهورة. وهناك من يستوردون بضاعة من وكلاء غير معترف بهم. فنجد نفس أسماء الأصناف مستوردة بمواصفات مختلفة. النوتيلا مثلاً كنا نستوردها من إيطاليا لكن هناك من يستوردها الآن من مصانع في بولونيا تضع الشوكولا والبندق، لكن المستهلك يشعر بطعم غريب عن تلك المستوردة من إيطاليا. هذا ليس معناه أنها مزورة لكنها مصنوعة في معامل أخرى”.
لا يملك نقيب اصحاب السوبرماركت أي معلومات لا عن مخازن “النور” ولا عن المنتجات التي ستعرض فيها لكن، هناك من يتحدثون عن بضاعة إيرانية أو سورية تباع فيها بنسبة كبيرة جداً. لسنا طبعاً ضدّ البضاعة الإيرانية والسورية لكن يحق لنا ان نسأل: كيف تدخل تلك البضاعة؟ وهل تمر من خلال مركز البحوث الصناعية ومختبرات وزارة الزراعة؟ وهل تمر عبر القنوات الشرعية وتخضع الى الضريبة الرسمية مثل سواها؟
حليب نيدو فُقد من الأسواق اللبنانية. وشركة نستله تجزم أنها زادت في الآونة الأخيرة تزويد السوق اللبنانية بسلعها التي لا نجدها في السوبرماركات الرسمية. لكن، إحداهن، ممن تحمل بطاقة نور، المعطاة الى موظفي “حزب الله” تحديداً، كانت تحمل بين يديها “كيس نيدو كبيراً” يزيد عن الكيلوغرامين. فمن أين أتت به؟ تجيب: “حصلت عليه” وتمشي في طريقها.
أحسن “حزب الله” في العناية ببيئته. ولكن، ألا يحق للشعب اللبناني ككل أن يعرف من أين يأتي “الحزب” بمنتجاته؟
مخازن النور الإستهلاكية وبطاقة السجاد والرعاية الصحية التي يقدمها “حزب الله” “تكفي لجعل بيئة المقاومة في مأمن من كل المؤامرات”. هذا هو ردّ جماعة “الحزب” على كل الأسئلة. فالكلام المستمر عن المؤامرات يفترض ان يجعل من كل المتسائلين شركاء في المؤامرة، وهذا بيت القصيد الذي يستخدمه هؤلاء لتمرير كل ما يشاؤون ودائماً تحت عنوان “نحن قوم لا ينهزم سنقاتل في كل الميادين وننتصر”.
أحدهم علق بسخرية “بعد مخازن النور سنشهد محطات النور للوقود وصيدليات النور”. وتلك الصيدليات التي بدأ الإستعداد لإطلاقها تحوي أدوية سورية وإيرانية. لكن، هل ستدخل تلك الأدوية عبر القنوات الشرعية؟ سؤالٌ آخر لا يرى “الحزب” وجوب الردّ عليه.
درء المؤامرات أمر ضروري لكن، هل هكذا نعيد بناء الدولة أم هذا يؤكد على “فدرلتها” المقنعة؟
بطاقة السجاد تنتشر. هناك 8000 بطاقة وزعت وهناك 12 ألفاً تُعدّ. والدولة اللبنانية لا تزال تدرس، عبر وزارة الشؤون الإجتماعية، أمر الأسر الأكثر فقراً! والحلّ؟ هل هناك حلول تملكها الدولة في بيئتها ونطاقها ومع مواطنيها؟ هل يفترض بالمواطنين اللبنانيين ان يبتسموا لأنهم في “بيئة” محسوبة على “حزب الله”؟ يبدو ان الدولة اللبنانية تلفظ آخر أنفاسها، فبعد تخليها عن قرار الحرب والسلم ها هي تتخلى عن كل مقومات الدولة. وهناك من لا يزال يسأل: لماذا كل العيون على فيزا الى أي مكان في الدنيا فيه دولة وواجبات وحقوق وقانون؟