لم يُخطئ اللبنانيون حين رفعوا عالياً شعار إستعادة السيادة السليبة، إلى الحرية والإستقلال، قبل 15 عاماً يوم 14 آذار الذي خبت صورته، لأسباب وأسباب، ليعود ويتعالى الصوت للمطالبة بها منذ إنتفاضة 17 تشرين وحتى اليوم، ذلك انها تحمل رسائل ومضامين سيادية هي بمثابة “إكسير” حياة الشعوب، وما جرى سابقاً ويجري لاحقاً من تكريس وصايات ودويلات، يُحيل، من أسف وخيبة، إلى أن لا حكومة في لبنان وتحديداً مع حسان دياب إلّا حكومة “حزب الله”، التي تمارس سياسة النأي بالنفس و”غب الطلب”… “شاء من شاء وأبى من أبى”.
يلمس اللبنانيون اليوم أكثر من أيّ وقت مضى الترابط بين الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بلبنان من جهة والمسألة السيادية من جهة ثانية، بمعنى وجود سلطة لبنانية شرعية تدير مؤسسات الدولة وتنتمي الى نظام المصالح الوطني، وتحتكر العنف في الدولة. منشأ هذا الترابط هو في أن المؤسسات الدستورية على اختلافها في لبنان اليوم لا ترى من مسؤولياتها أن تواجه الشعب اللبناني أو المجتمع الدولي، من موقع أنها المسؤولة عن الدولة اللبنانية وعن الخيارات التي تعتمدها في السياسة والاقتصاد وحتى في السياسة المالية. لذا ما يسمعه اللبنانيون دوما، وبعد “ثورة 17 تشرين” تحديداً، هو القاء المسؤوليات على الآخر، سواء ما نشهده من اتهامات متبادلة بين اطراف السلطة انفسهم حيناً، وبين السلطة وادواتها أحياناً أخرى، كما هي الحال في الاتهامات التي تطال حاكمية مصرف لبنان من قبل بعض اطراف السلطة على سبيل المثال لا الحصر.
“مهزلة” الرهانات الخارجية
من هنا المسألة السيادية تطرح نفسها بقوة في ظلّ سياسة تغييب المسؤوليات والتنصل منها، وهو ما يترجم اليوم غياب ايّ رؤية رسمية وجدّية للخروج من الأزمة، وفي الحدّ الأدنى خطة للجم الانهيار، في ظل “مهزلة” الرهان على المساعدة من قبل دول عربية وغربية من دون اظهار ايّ استعداد عملي لوقف الهدر ولجم الفساد في المؤسسات العامة أو في مالية الدولة وسياساتها النقدية، ومن دون القيام بأي مبادرات تظهر أن السياسة الخارجية اللبنانية مهتمة بإعادة ترميم علاقاتها العربية والدولية، بما يوفر الأجواء الملائمة لتشجيع هذا الخارج على دعم لبنان.
استعادة السيادة اللبنانية في سياق تطبيق الدستور والقانون، هي ما حاول اعلان “حركة المبادرة الوطنية 2020” الانطلاق منها والتركيز عليها باعتبارها المدخل الموضوعي لمعالجة “الأزمة”، في مؤتمر صحافي اطلق فيه “الإعلان” في الاشرفية (بيروت) امس (الأحد) بمشاركة عدد من النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتنوعة. اذ اعتبر أن الأزمات التي يعاني منها لبنان اليوم “إنما تُرَدُّ بأسبابها المتمادية إلى عاملٍ سياسيّ رئيس هو استمرار الوصاية على لبنان منذ العام 1990 حتى الآن، أكانت وصايةً سورية أم إيرانية”. من هنا فان اختلال السيادة كما ورد في “الإعلان” استمر وتعمّق بمعادلة “الوصاية تحمي الفساد والانحراف، وهذان الأخيران يحميان الوصاية، إلى حدّ مبادَلة المناصب والامتيازات بالسيادة”.
“حزب الله” المتمادي في توريط لبنان
وفي هذا السياق يبرز مثال حاضر بقوة اليوم في مشهد تورط “حزب الله” في الحرب السورية، وقد كشفت الأيام القليلة الماضية عن جانب من هذا الاختلال، ففي حين سقط تسعة قتلى للحزب بين ريف حلب ومحيط ادلب بنيران تركية في الشمال السوري، بدت الحكومة اللبنانية بمنأى عن هذا الحدث الذي ينذر بعواقب على لبنان أقله على مستوى العلاقة التركية – اللبنانية، فضلا عما يسبب ذلك من مخاطر انزلاق الوضع اللبناني الداخلي الى توترات ذات طابع مذهبي، وقبل ذلك كله موقف الحكومة اللبنانية من المعارك التي يخوضها “حزب الله” في الشمال السوري وخارج الحدود. صمت حكومة الرئيس حسان دياب غير بليغ، ولا ينتمي لمدرسة “أبو الهول”، بل يظهر الى حدّ بعيد صمتاً يترجم غياب أيّ رؤية استراتيجية وموضوعية لمعالجة الأزمة التي يفترض بهذه الحكومة معالجتها، ففي حين يتحضر الرئيس دياب للقيام بجولة عربية وينتظر موافقة فرنسية لاستقباله، تبرز الإشكالية التي تتصل بقدرة هذه الحكومة على أن تكون حكومة الدولة اللبنانية، طالما أن الجزء الأكبر من الذين يتوجه اليهم دياب لطلب المساعدة هو من الدول التي تطالب لبنان بأن يكون صاحب قرار وسلطة قادرة على الالتزام بمقتضيات الدستور والقانون، وبالقرارات الدولية، وبالشرعية العربية.
ذلك أن إصرار “حزب الله” على المزيد من التورط في الحرب السورية، وزيادة منسوب العداء له وللبنان، سوف يفاقم الأزمة اللبنانية، ويحول دون فتح المنافذ من أجل منع الانهيار، وهو ما يطرح السؤال حتى في البيئة الشيعية التي يمثلها الحزب، عن المغزى من سقوط شباب لبنانيين في معارك بات واضحاً أنها لا تعود على هذه البيئة فضلا عن لبنان، بأي فائدة، بل بأضرار تكاد تجعلها في حلقة مغلقة من الأعداء يحيطون بها من كل الاتجاهات. من هنا صمت الحكومة والنأي بنفسها عن سياسات “حزب الله” العدائية للخارج، يحمل في طياته تخلّياً فاضحاً عن مسؤولياتها تجاه المواطنين ومصالح الدولة.