IMLebanon

حزب الله» يريد إضعاف الحريري أم تقويتَه؟

هناك من يُحاول الإيحاء بأنّ الرئيس سعد الحريري هو الوحيد الخارج جريحاً من الانتخابات البلدية. والمرجَّح أنّ الذين لهم ثأرٌ على الحريري يستفيدون من تكريس هذه الصورة للضغط عليه. لكنّ التعمُّق يُظهر أنّ نادراً من خرج سالماً من المعركة.

تلقّى الحريري نتيجة لم يتوقّعها لا هو ولا حلفاؤه ولا الخصوم، في بيروت وطرابلس تحديداً. لكنّ القوى الأخرى، لدى الموارنة والشيعة، لم تخرج سالمةً تماماً من المعركة. ويقول القريبون من الحريري في هذا الشأن: «ما حدا أحسَن من حدا».

صحيح هذا القول إلى حدٍّ ما. فعند القوى المسيحية، كان الانطباع الغالب يُوحي بأنّ تفاهم عون – جعجع «سيكتسح الأرض»، فتبيَّن أنّ التفاصيل خبّأت عناصر أخرى جديرة بالتفكير.

وكذلك، كان الانطباع يُوحي بأنّ الثنائي الشيعي حاسم حازم ولا أحد يَخرقه. وعلى رغم أنّ أحداً لم يرفع عنواناً خارج السقف السياسي المحدَّد، فاللافت هو أنّ «القوى المدنية» أو العائلية أو اليسارية التي أظهرَت حضورَها في المناطق الشيعية لم تكن هامشية.

لكنّ التركيز على الحريري استقطب الاهتمام أكثر من سواه نظراً الى مكانته وعلاقته مع الشارع السنّي وإلى وضعية «المستقبل» ذاته. لذلك، هو سارَع إلى إطلاق وعدٍ بالمراجعة الشاملة وإعادة ترتيب البيت الداخلي، على الأرجح خلال المؤتمر العام في تشرين الأول المقبل.

القوى السياسية كلّها معنية في هذا المعنى. ويمكن تصنيفها وفقاً للآتي:

1 – القوى التي يضمن الحريري دعمها، وهي الرئيس نبيه برّي والنائب وليد جنبلاط وقوى من «14 آذار» حزبية ومستقلة.

2 – «القوات اللبنانية» التي نشَأ بينها وبين الحريري تَعارضٌ في المصالح من داخل التحالف في «14 آذار».

3 – «حزب الله» الذي تعاطى حتى اليوم مع الحريري من منطلقات براغماتية شديدة الدقّة. أمّا «التيار الوطني الحر» فهو يتأرجح داخل موقع الخصومة مع الحريري… ما دامَ يرفض ترشيحَ العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية.

الطرفان المسيحيان يتعاطيان مع الحريري وفقاً لما يقتضيه التكتيك السياسي، ومفاعيله محصورة. أمّا تعاطي «حزب الله» مع الحريري فمن شأنه أن يقدِّم أو يؤخِّر في وضعية الحريري داخل السلطة القائمة حالياً على تسوية مذهبية عبَّرت عنها حكومة الرئيس تمام سلام.

فهذه الحكومة جاءت أساساً بناءً على رغبة «الحزب» في تعويم الاعتدال السنّي، المتمثّل بتيار «المستقبل». وهي قامت على المعادلة الآتية: يَقبل «الحزب» بأن يعود «المستقبل» إلى السلطة، ويتولّى مواقع أساسية (رئاسة الحكومة، الداخلية، العدل…).

وفي المقابل، يصمت «المستقبل» عن سلاح «الحزب» والقتال في سوريا، ويقوم بدورٍ فاعل في مواجهة التطرّف السنّي الذي دقَّ أبواب المناطق الشيعية بعنف من خلال العمليات الانتحارية التي استهدفَت الضاحية وبعلبك – الهرمل. وهذا التراضي ترجَمه التعاون في الحكومة وجلسات الحوار بالنسختين، الإنتر- مذهبية والإنتر- طوائفية.

لم يفعل الحريري خلال هذه الفترة ما يُزعج «حزب الله». فهو لا يُخِلُّ بأيّ مِن قواعد التراضي. فرئيس الحكومة يحافظ على الحياد، ووزير «المستقبل» نهاد المشنوق متَّهَم بأنّه يبالغ في مسايرة «الحزب» في الداخلية.

وعندما ارتفعَ صوت اللواء أشرف ريفي ضد «الحزب»، خرجَ من «المستقبل». وردَّ «الحزب» على الحريري بالمِثل، ولولا ذلك لَما توافرَت لرئيس «المستقبل» ظروف الطمأنينة والعودة إلى بيروت ربما. وعلى رغم المناكفات «الطبيعية» بين الطرفين، فإنّهما لم يبلغا يوماً حدود القطيعة.

والتذكير بهذه المعطيات والوقائع يرتدي أهمّية في الإجابة عن السؤال الذي فرضَته النتائج الصادمة للانتخابات البلدية: هل إنّ «حزب الله» «حارب» الحريري في صناديق الاقتراع في بيروت، وبطريقة غير مباشَرة في طرابلس والضنّية وعكّار؟

وتالياً، هل إنّ «حزب الله» يريد في هذه المرحلة إضعافَ الحريري؟ وإذا كان الجواب إيجاباً، فلماذا يريد أن يفعل ذلك ما دامت كلّ قواعد الانضباط في العلاقة بين الجانبين مصانة؟

ويستدعي ذلك سؤالاً آخر: إذا كان «الحزب» راغباً في إضعاف الحريري أو استضعافه، فهل هذا يعني أنّه بات مهتمّاً بوجود قوى أخرى بديلة على الساحة السنّية؟ ومَن هي هذه القوى؟

هذه الأسئلة المتراكمة يجيب عنها بعض المتابعين بالقول: نعم شاركَ «الحزب» حيث يستطيع في الاقتراع ضد الحريري، في بيروت والشمال وسواهما. وهذا الموقف بديهي لأنّ الطرفين يتصارعان سياسياً، ولـ»الحزب» حلفاء من الطبيعي أن يتلقّوا منه الدعمَ في مواجهة الحريري.

لكنّ «حزب الله» يقيس علاقتَه مع الحريري بميزان الذهب حاليّاً. فصحيح أنّ مصلحته تقتضي بأن يستفيد من الوضعية التي يعيشها الحريري في هذه الفترة، لكنّه ليس في وارد الذهاب في هذا الموقف إلى حدود تهدّد بإضعاف موقع الحريري داخل الطائفة وإتاحة الطريق لقوى أخرى أكثر راديكالية في التعاطي مع «الحزب».

فـ«حزب الله» يدعم أسامة سعد في صيدا والقوى اليسارية والمدنية في بيروت، وقوى حليفة في طرابلس والضنّية وعكّار ضد الحريري، لكنّه لا يجد مصلحة في زوال الحريرية السياسية إذا كان البديل هو القوى الأشدّ صلابةً في وجه «الحزب»، كاللواء ريفي أو القوى الأكثر تشدّداً مذهبياً أو دينياً.

وكان لافتاً أنّ الكشفَ أخيراً عن خلايا «داعش» ومخططاتها في لبنان تَزامنَ مع السجال الحادّ حول التحوّلات في المزاج السنّي ووضعية تيار «المستقبل»، على خلفية الانتخابات البلدية الأخيرة.

وستواجه القوى السياسية جميعاً، بما فيها «حزب الله»، استحقاقاً مهمّاً، هو الانتخابات النيابية التي ربّما تجري باكراً أو تتأخّر حتى موعدها المحدّد في الربيع المقبل. فهل من مصلحة هذه القوى أن تتعاطى مع الحريري أم مع قوى سنّية أخرى؟

الأرجح أنّ «حزب الله» يريد الضغط على الحريري إلى الحدود التي تجعله ضعيفاً أمامه. ولكن مِن مصلحة «الحزب» أن يبقى الحريري متماسكاً على رأس «المستقبل»، لكي يضمن له أنّ الطائفة السنّية في لبنان ممسوكة بالاعتدال. فحريرية سعد الحريري بالنسبة إلى «حزب الله» لم تعُد تحمل المضمون الذي حملته حريرية الرئيس رفيق الحريري، والتي كانت العلاقات معها صدامية غالباً.

يريد «حزب الله» استمرارَ الحريرية، ولكنْ بعد إدخالها في القالب الذي يريده. إلّا أنّ الطرفين، الحريري و«الحزب» ليسا في جزيرة معزولة. ومشكلة غالبية القوى المذهبية الموجودة اليوم، أنّها لم تولد نتيجة عوامل محض محلّية، بل بتغطيةٍ من قوى إقليمية ذات شأن، وأنّها تتحرّك بناءً على توجّهات ترسمها هذه القوى، أو تتأثّر بها على الأقلّ.

وفي الأشهر الأخيرة، خاضَ الحريري مواجهةً واضحة مع بعض الحلفاء الإقليميين الذين بَعثوا إليه برسالة عنوانُها: عليكَ أن تقود المواجهة في وجه «حزب الله»، بلا هوادة. وهذا ما لا يستطيع الحريري أن يقوم به، كما لم يستطع أن يقوم به والده الرئيس رفيق الحريري.

إنّها هنا ازدواجية المواقف لدى الجميع: الحريري ضد «حزب الله» ضمن حدود، و«الحزب» ضد الحريري ضمن حدود، والسعودية وإيران تتواجهان بالحريري و«الحزب» وسواهما، لكنّهما خائفتان من تجاوزِ الحدود لئلّا تفلتَ الأمور من ضوابطها وتندلعَ فتنة مذهبية شاملة.

هذه حقيقة اللعبة: الأعداء ليسوا أعداءَ إلى النهاية، والأصدقاء لم يكونوا أصدقاءَ منذ البداية…