يقول أحد المتابعين جيداً للشأن الإيراني إنّ المكان الوحيد في الشرق الأوسط الذي تطمئن فيه إيران تماماً، هو لبنان. هُنا، يقوم «حزب الله» بالواجب وأكثر، ومعه لا تخشى على مصالحها. ولذلك، إنه الوحيد، في الشرق الأوسط، المالك «كلمة السرّ» الإيرانية.
ليس «حزب الله» بالنسبة إلى إيران مجرَّدَ أداةٍ تحرِّكها بـ«الريموت كونترول» كما يردِّد خصومه أحياناً. إنه شريكٌ حقيقي في مشروعها.
وصحيح أنّ العقل المدبِّر والقوة الداعمة موجودان في طهران، لكنّ «الحزب» ليس مُلحقاً بالمشروع، بل هو جزءٌ أصيلٌ منه. ولذلك، هو نموذج تريد طهران من حلفائها في الكيانات التي تطمح إلى تكريس نفوذها فيها، أن يتخذوه مثالاً لهم.
استطاع «حزب الله»، في المرحلة السابقة لانخراطه في الحرب في سوريا، أن يبني لنفسه رصيداً على المستويَين العربي والإسلامي. وهذا الإنجاز لم يستطع تحقيقه أيُّ حليف آخر لإيران في سوريا والعراق.
وتسجِّل إيران لنظام آل الأسد أنه استطاع رعاية «حزب الله» وتأمين الظروف المناسبة لانطلاقه في العام 1983. وهو أزاح له كلّ القوى المنافسة على الساحة اللبنانية، خصوصاً تلك التي كانت تقاتل إسرائيل تحت راية القوى القومية أو اليسارية، وساعده ليكون له القرار في لبنان.
لكنّ «حزب الله» كان أكثرَ نجاحاً في بناء صورة الحزب المجاهد ضد إسرائيل لمرحلة طويلة. وفيما لم يتخلّص النظام من النظرة إليه كحكم الأقلية المذهبية، بقوة القمع، بقيت صورة السيد حسن نصرالله إيجابية في العالمين العربي والإسلامي، حتى اندلاع الحرب في سوريا.
واليوم، يبدو سهلاً ترميم هذه الصورة، بمجرد انسحاب «الحزب» من هذه الحرب. وأما نظام الأسد فلا مجالَ لتبديل النظرة إليه، ولو تمّت التسوية في سوريا، وحتى لو خرج الأسد تماماً من السلطة. وفي أيّ حال، لم يكن الأسد دائماً جزءاً أصيلاً من المشروع العقائدي الإيراني، كما هو «حزب الله».
واليوم، تقاتل في سوريا مجموعة كبيرة من الفصائل والميليشيات الشيعية، التي ترعاها إيران، إلى جانب النظام و»حزب الله» والحرس الثوري الإيراني- كتائب القدس، التي يقودها الجنرال قاسم سليماني.
وأبرز هذه الفصائل: لواء أبو الفضل العباس. وبعض هذه الجماعات تقتصر هيكليتها على بضع مئات من الكوادر والعناصر. وتسعى إيران إلى توحيد هذه الجماعات وتأطيرها لتتمكن من تحريكها كجيشٍ واحد يخدم المشروع الاستراتيجي المنتظر للشرق الأوسط في المستقبل.
وأما في العراق، فحلفاءُ إيران في وضعية أكثر ارتباكاً وتشتتاً، ما يضعف قدرتها على تجنيدهم في المشروع الكبير. فهناك عدد كبير من التنظيمات الشيعية، أكبرها عدداً جيش المهدي الذي يقوده السيد مقتدى الصدر الذي يسلك مساراً أكثر استقلالاً عن الاعتبارات الإيرانية.
ثم تأتي «عصائب أهل الحق» الخاضعة مباشرة للحرس الثوري الإيراني، كما «حزب الدعوة الإسلامية» و»حزب الله» العراقي وفيلق بدر الذي يقوده نوري المالكي، ولواء أبو الفضل العباس وتنظيمات أخرى.
وتتحرَّك إيران مباشرة، وفي شكل طارئ، لترميم الموقف هناك، ولإدخال الصدر تماماً في المنظومة الإيرانية. وشهدت الأشهر الأخيرة دينامية إيرانية لافتة لتوحيد الموقف الشيعي في العراق سياسياً وتأطير هذه المليشيات تحت لواء قيادة واحدة.
ولم ينجح الشيعة العراقيون في تدعيم نفوذهم في بغداد، على رغم مرور 13 عاماً على خروج الرئيس صدام حسين من السلطة، وتسلّمهم المواقع الأولى في السلطة. ويغرق البلد في الفوضى، ويتجه إلى الانقسام.
تنظر إيران إلى نموذج «حزب الله» في لبنان على أنه المثالي لها. فـ«الحزب» استطاع أن يضبط الساحة تماماً، على رغم أنّ موقع لبنان هو الأبعد عن نفوذ إيران. وهو يحافظ على سقف عالٍ من الانضباط في العلاقة مع المكوّنات اللبنانية جميعاً ما يمنع انتقالَ شرارة الفتنة المذهبية إلى لبنان. واللافت أنّ الفئات اللبنانية كلها، بما فيها خصومه المذهبيون، ترفض تصنيفه حزباً إرهابياً.
لكنّ الواضح أنّ الخصوصية التي يتمتع بها «حزب الله» ليست شأناً خاصاً به بمقدار ما هي خصوصية لبنانية. فالقوى اللبنانية جميعاً تتصرف من منطلق السعي إلى إبقاء لبنان بعيداً عن المنازعات التي قد تؤدي إلى انفجاره من الداخل.
ويقول أحد المتابعين إنّ «حزب الله» ليس الطفل الإيراني المدلّل، الذي يتمتع بأموال والديه ويهدرها بلا حساب، بل هو الطفل الذي نجح في تثمير هذه الأموال، ولذلك هو يحظى بثقتهما. وهكذا، فإنّ المرحلة الإيرانية الجديدة تشهد انخراط إيران في عملية توحيد مجموعاتها العسكرية والأمنية العاملة في العراق وسوريا لتعميم نموذج «حزب الله». ويتولّى اللواء سليماني هذا الملف مباشرة.
وفي الأيام الأخيرة، ظهرت تقارير لباحثين جديين في الشأن السوري، بينهم فيليب سميث من «معهد الشرق الأوسط» في واشنطن، تؤكد سعي إيران إلى «استنساخ» تجربة «حزب الله» في سوريا، إستناداً إلى إعلان أحد قادة الحرس الثوري اللواء حسين همداني في 2014 أنّ إيران أنشأت «حزب الله» ثانياً في سوريا. ومعلوم أنّ همداني قُتل في الخريف الفائت خلال المعارك السورية.
هذا المسعى الإيراني هو جزءٌ من التحدي الإقليمي الذي تواجهه إيران في المرحلة المقبلة: كيف تستفيد من الغطاء الإقليمي- الدولي المتاح لها، لتفرض السيطرة على سوريا والعراق ولبنان، أي «الهلال الشيعي»، من دون استثارة فتنة مذهبية تبدأ بالعراق ولا تنتهي بلبنان؟
هناك اختلافات جذرية في الوقائع الجيوسياسية التي تتحكّم بكلٍّ من العراق وسوريا ولبنان. ففي العراق، المحاذي لإيران، يتمتع الشيعة بأكثرية عددية. ولكن ترتسم هناك حدود بين ثلاثة كيانات: شيعي وسنّي (مع نفوذ ملموس لـ»داعش») وكردي. وكذلك، باتت الحدودُ مرسومة في سوريا بين الكيانات، على رغم كون العلويين والشيعة أقلية هناك.
أما في لبنان، فهناك استقرارٌ واضح في العلاقات بين المكوِّنات الطائفية والمذهبية. وعلى رغم الاهتزازات العميقة التي يتعرض لها لبنان بتأثيرٍ من المعطيات الإقليمية، فإنّ شرارة الفتنة لم تستطع إلحاقه بضحايا «الربيع العربي». وترتاح إيران إلى أداء «حزب الله» في هذا المجال.
فقد نفَّذ «الحزب» في لبنان عملية «انقلاب على الانقلاب» هادئة، تمكَّن خلالها من إزالة معظم الآثار التي ترتبت عن خروج سوريا في ربيع 2005. وعرف كيف ينخرط في اللعبة السياسية اللبنانية، وتسلّق من خلالها أخطاء خصومه ليتسلّم زمام الأمور مجدداً… من دون استثارة فتنة مذهبية تُحرقه هو والآخرين جميعاً.
ويسجِّل الإيرانيون لحليفهم اللبناني نجاحه في تجربةٍ يريدون تعميمها على حلفائهم في العراق وسوريا، حيث المطلوب إطلاق نموذج من «الحزب» اللبناني في كلٍّ منهما.
ولهذه الغاية، وعلى رغم الاختلاف في المعطيات الاستراتيجية التي تتحكم في كلٍّ العراق وسوريا ولبنان، فإنّ طهران تحرص على التزام قاعدتين صالحتين للتطبيق فيها كلها:
1- الإمساك بزمام السلطة المركزية في كلٍّ من الدول الثلاث، وعدم التفريط بأيّ موقع قوة داخلي، ولاسيما في المجالين العسكري والأمني.
2- وضعُ الدول الثلاث في حال من الإرباك والفوضى الدستورية والسياسية والإقتصادية والأمنية، ما يسهِّل انتقالها في أيّ لحظة إلى الحلول السياسية المرسومة، أي إلى إعادة التأسيس. فليس هناك مجال لعودة أيٍّ منها إلى ما كانت عليه سابقاً.
لكنّ هذه الحال لا يجوز أن تبلغ حدود الإنهيار الكامل، لأنّ ذلك سيؤدي إلى فقدان مقومات السلطة التي يسيطر عليها حلفاءُ إيران، سواءٌ في بغداد أو دمشق وبيروت.
في الفترة المقبلة، ستوحِّد إيران ميليشياتها في العراق وسوريا لتتمكن من وضعها في إطار مشروعها الاستراتيجي من دون عوائق، والنموذج هو «حزب الله». وطموحُها أن تستوعب البلدين ولبنان في دائرة نفوذها، أيّاً تكن الصيغ التي سيتم رسمها للكيانات الثلاثة في المستقبل.