لا يحق لأحد في لبنان أن يزايد أو يباهل أحدا في الانتساب أو عدم الانتساب الى المحاور الإقليمية والدولية. الكل غارق حتى أذنيه في لجة المحاور، إن لم يكن بالحضور المباشر والمشاركة العسكرية، فبالموقف السياسي والاعلامي والدعم المعنوي والمادي. وليس الحديث عن الحياد والنأي بالنفس سوى مظهر من مظاهر خداع النفس أولا، وخداع الرأي العام ثانيا.
ولا يظنن أحد أن الانتساب للمحاور عيب أو نقيصة. فعندما تندلع الصراعات حولك وحواليك ويصبح كيانك الوطني رغما عنك مهددا بالأخطار، لا بد أن تحضر السوق، كي لا يرسم الآخرون مصيرك، على حد قول الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير.
لقد انتهى الزمان الذي كان يدعي فيه البعض أن لبنان هو «سويسرا الشرق»، وهو لم يكن كذلك يوما، رغما عنه. فمنذ العام 1948، كان لبنان وما يزال في صلب المحاور الإقليمية والدولية. شارك في المعارك الأولى على فلسطين، وانقسم على ثورة مصر عام 1952 وعلى حلف بغداد واتفاق القاهرة والوجود الفلسطيني والسوري في لبنان، وتعرض لحروب اسرائيل واجتياحاتها واحتلالاتها، وخاض أهله حروبا دامية في ما بينهم لم تكن وليدة الخلاف فقط على شؤونه الداخلية.
في الماضي كانت الأحزاب تتهالك وتتفاخر في الوقت نفسه بالامتداد خارج حدود منبتها الأصلي. هكذا كانت وما تزال تجارب الشيوعية والقومية العربية والناصرية والبعثية والأخوانية المسلمة وغيرها وغيرها… فلماذا يؤخذ اليوم على تنظيم وازن كـ «حزب الله» أن يتمدد خارج حدود انطلاقته، وقد أثبت أن له مناصرين خارج حدود لبنان؟ ولماذا الحلال على الآخرين يصبح حراما على الحزب؟
في خطابه الأخير، كان السيد نصر الله صريحا كعادته الى أبعد الحدود، وجريئا «حيث لا يجرؤ الآخرون»، فأعلن بكل وضوح أن الحزب انتقل من واقعه المحلي الضيق الى الواقع القومي والأممي عندما قال: «تعالوا لنذهب لأي مكان نواجه فيه هذا التهديد (التكفيري) الذي يتهدد أمتنا ومنطقتنا، لأننا هكذا ندافع عن لبنان، وهكذا ندافع عن شعب لبنان، وهكذا تتصرف القوى الكبرى في العالم والدول المحترمة في العالم والجيوش القوية في العالم» (لاحظوا تعبير «القوى الكبرى»).
إن الحديث عن توريط لبنان في صراع المحاور في المنطقة لم يعد ذا معنى، ولا فائدة منه. فلبنان متورط منذ وجد في هذا الصراع. وواهم في هذه المرحلة من ينشد الحياد في ظل وجود مليوني لاجئ فلسطيني وسوري في البلد. وعليه، يفترض أن يتجاوز النقاش حدود المزايدة والمباهلة، إلى الاعتراف بأن ثمة صراعا عالميا في المنطقة، وأن الغلبة ستكون للذي يحسم الحرب. وقد ينتهي الصراع بلا غالب ولا مغلوب على الطريقة اللبنانية الخالدة.. وكان الله يحب المحسنين.