لماذا لا يشعر حزب الله بالقلق ازاء الاعلان الروسي عن سحب قواته الرئيسية من سوريا؟ لماذا لن تتأثر الساحة اللبنانية بالتطورات المتسارعة في الميدان السياسي والعسكري السوري؟ ولماذا يشعر حلفاء واشنطن «بالتوتر» وربما «الذعر»؟ هذا «غيض من فيض» استنتاجات، تأتي ردا على اسئلة «وترجيحات» و«تخريفات» انطلقت خلال الساعات القليلة الماضية في محاولة لفهم ما يدور في «راس» «قيصر الكرملين»، طبعا لم يدع احد انه يملك الحقيقة كاملة، ثمة الكثير من المعطيات غير المتوافرة وهي تحتاج الى مزيد من الوقت كي يتم تظهيرها والبناء عليها، لكن هذا لا يمنع اوساط قيادية فاعلة في 8 آذار، من اعادة تصويب النقاش «وعقلنته» بعد ان ذهب الكثيرون في المغالاة «احتفاء» بما يرون فيه خذلانا روسيا للحلفاء، ويرون فيه مقدمة لهزيمة ايرانية – سورية ستكون مقدمة لهزيمة حزب الله في لبنان…
وبحسب تلك الاوساط، عندما قرر حزب الله التدخل في الحرب السورية لم يلحظ في استراتيجيته التدخل الروسي العسكري المباشر، لم يكن الامر مطروحا في قائمة الاحتمالات، كان الحزب يعرف حجم المخاطر المحدقة، وضع سقفا لاهدافه، بناء على الوقائع والقدرات المتاحة، انجز ما يريده حتى الان، جاء الدخول الروسي ليعطي دفعا كبيرا لاستراتيجيته، هكذا كان وهكذا سيبقى، تكيف مع مرحلة رمي الروس بثقلهم في المعركة، وسيتكيف مع تراجعهم «خطوة الى الوراء»، وليس الانسحاب من المعركة، فمن يعتقد ان القوات الروسية غادرت الميدان السوري، سيصاب بالاحباط قريبا، ثمة خطط عسكرية متفق عليها بدأ تنفيذ بعضها والاخرى على الطريق، موسكو ملتزمة بما تعهدت به، مدينة تدمر ومحيطها هي الاختبار الميداني الاول، حزب الله موجود هناك يشارك في القتال ضد «داعش»، لا صحة للمعلومات حول سحبه لاي قوات عسكرية، ثمة تبديلات روتينية زاد عليها تبديل نوعي لفرق «متخصصة»، وذلك لاسباب ميدانية ترتبط بطبيعة المواجهة المقبلة، ولا يزال شعار المرحلة «سنكون حيث يجب ان نكون».
طبعا يعرف حزب الله عبر الايرانيين، ان الحلف مع موسكو لا يزال ثابتا، لم يحصل اي تراجع في التفاهمات مع الكرملين حول ملفات المنطقة، وخصوصا في الازمة السورية، وجل ما حصل استثمار سياسي لمفاعيل قوة عسكرية جاءت بنتائج مثمرة ومهمة يحاول بوتين «قطف ثمارها» لاحراج الاميركيين، بما لا يتعارض حكما مع مصالح حلفائه في المنطقة، مصالح قد لا تكون متطابقة مئة في المئة، ولكنها ليست متعارضة، ولذلك لا مجال هنا للحديث عن «بيع وشراء»، ثمة شيء مختلف في العلاقة بين هذا المحور تتجاوز الساحة السورية تقول الاوساط، وما حصل ينطبق عليه توصيف «الانسحاب العسكري التكتيكي» لتوظيف الانجازات الميدانية في السياسة، بعد ان وسع التدخل الروسي «طوق» الامان حول سوريا «المفيدة»، ثبت «اقدام» النظام، أخضع المعارضة العسكرية ميدانياً، وقلم أظافرها، ما سمح بعقد لقاءات جنيف، وتدشين التسوية السياسية، وفرض هدنة «بقوة» الامر الواقع، فيما الحرب مستمرة ضد «الارهاب».
هذه المعطيات الواضحة لدى هذا المحور، يقابلها «غموض» لدى «المعسكر» الاخر، وبحسب اوساط ديبلوماسية في بيروت، حلفاء واشنطن لم يكونوا في «الاجواء»، «القنوات» الاميركية المعتادة، لم تقدم حتى الان معلومات جدية للحلفاء العرب عن طبيعة التحولات التي دفعت بوتين الى اتخاذ هذا القرار، وحتى وزير الخارجية الاميركية جون كيري الذي التقى المسؤولين السعوديين قبل ايام لم يفاتحهم بهذا التطور المهم.
التحرك الروسي عزز المخاوف لدى هؤلاء، فعندما دخل الروس الى «المعادلة» السورية اعتبر خصوم طهران في المنطقة انه سيكون على حساب النفوذ الايراني في دمشق، وانطلاقا من هذه المعادلة بدأ الترويج لفكرة امكانية التفاهم مع بوتين في «لعبة» تتجاوز المصالح الايرانية، لكن الامر لم ينجح، وهم يسألون اليوم عن القوة البديلة التي ستملأ الفراغ؟ هو سؤال اسرائيلي – خليجي مشترك، الرئيس الاسرائيلي ريؤفين ريفلين حمل في جعبته هذه الهواجس بالامس الى موسكو، وهو نقل الى بوتين قلق الاجهزة الامنية الاسرائيلية من هذا الفراغ، وطالب بضمانات ألا يؤدي «انسحاب» القوات الروسية من سوريا إلى اكتساب ايران وحزب الله هناك المزيد من «القوة».
طبعا الجواب الروسي معروف، «موسكو لا يمكن ان تقوم بدور «الشرطي» عند أحد»، واذا كانت واشنطن لا تفرط بالامن الاسرائيلي، فان موسكو لا تفرط به ايضا، لكن الجانبين لا يملكان الضمانات الكافية، لم يحصل هذا في السابق، ولن يحصل في المستقبل، فالوقائع على الارض تفرض نفسها، ولا يستطيع احد التاثير في حجم نفوذ ايران وحزب الله في سوريا، تؤكد الاوساط الديبلوماسية، وهذه «المعادلة» تنطبق ايضا على حلفاء واشنطن العرب وفي مقدمهم السعودية، مع فارق جوهري يرتبط بتراجع مكانة المملكة عند واشنطن، هذا ما يزيد من «القلق والذعر»، ففي الرياض يشعرون ان اي تفاهم مستقبلي لن يأخذ بعين الاعتبار المصالح السعودية، فلا موسكو معنية بذلك، وهي تبحث عن مصالح حلفائها، ولا واشنطن تبدو مهتمة بالامر، وباتت اولوياتها منصبة على تطوير الاتفاق النووي مع ايران الى تفاهمات اوسع على ملفات المنطقة… ولدى السعودية معطيات تفيد بأن ايران ستزيد من جرعة الدعم للنظام السوري عدة وعديدا…
وما زاد المخاوف، قيام مسؤول اميركي نافذ بابلاغ السعوديين، والاتراك، والاسرائيليين، بان الامر لم يكن منسقا مع واشنطن، ووصف الخطوة الروسية بانها تحريك روسي «لبيدق» حاسم على «رقعة الشطرنج» التفاوضية، ووفقا للقراءة الاميركية، بوتين لم يتصرف انطلاقا من مفهوم الادارة «المشتركة» الاميركية – الروسية لعملية التفاوض بين الدولة السورية والمعارضة في جنيف، بل يعمل على حشر واشنطن، في البدء لم يصدق الاميركيون كلام بوتين واعتبروه مناورة، وعبّروا في البداية عن شكّهم في انسحاب الروس، ثم اجرى الرئيس باراك أوباما اتصالا بالرئيس بوتين دون ان «يقتنع» بان الخطوة الروسية هي فقط لاعطاء دفع للتسوية السياسية، ولذلك قرر ارسال كيري الى موسكو. اكتشف حلفاء واشنطن ان الإدارة الأميركية «مربكة» ازاء القرار الروسي، فالدخول العسكري قبل نحو ستة اشهر، جنب واشنطن القيام بخطوات لم تكن مقتنعة بها، لكنها كانت «محرجة» مع حلفائها، بدءاً من تعهد أوباما الشهير بضرب النظام إذا تجاوز «الخطّ الأحمر»، والذي تمّ «التنصل» منه من «التفاهم» مع موسكو على التخلّص من الأسلحة الكيميائية السورية، وصولاً إلى تحكم روسيا بالاجواء السورية، وهو ما برّر لواشنطن التحرّر من ضغوط تركيا والدول الخليجية الراغبة في اقامة المنطقة الآمنة، والحظر الجوّي، أو التدخّل العسكريّ البري، ولذلك فان السرعة المفاجئة التي حصل فيها القرار والانسحاب «التكتيكي» كان صادما للاميركيين… وسواء صدق الاميركيون في انكار معرفتهم بالامر او لم يصدقوا، فان حلفاءهم باتوا على قناعة انهم خارج التأثير الجذري والعميق في مسار الأحداث…
الخطوة الروسية ستبقى تحت «المجهر» في الايام والاسابيع المقبلة، الكثير من الحقائق ستتكشف، والى ذلك الحين لا توجد معطيات تفيد بأن الساحة اللبنانية ستكون تحت تأثير «منخفض الجوي» روسي، حزب الله نجح في عملية «فك الارتباط» بين الحدث السوري وتأثيراته في الساحة اللبنانية، الفريق الاخر فقد القدرة على استثمار التطورات السورية، يذكر الجميع انه عندما بدات موسكو «عاصفة السوخوي» تبدل المشهد الميداني في سوريا جذريا، ورغم ذلك لم تتغير مقاربة حزب الله للمشهد ولم يسع لاستثمار التقدم العسكري على الارض للاستقواء على الاطراف الاخرى، يعرف «خصوم» الحزب انهم يبالغون كثيرا في قراءة تداعيات «الخطوة» الروسية، «المراوحة» ستبقى تطبع المشهد اللبناني بانتظار تسوية ايرانية ـ سورية، لا تبدو انها قد نضجت بعد.. ويبقى لبنان في قعر «الاهتمامات»…