على حدود إسرائيل اليوم، جولاني يعمل منذ عامين ونيّف، وآخر تخشى ولادتَه.
الأول، أبو محمد الجولاني، له «جبهةٌ» ترابط على تخوم الأراضي السورية المحتلة، وتبسط سيطرتها على جزء معتبر من ريفي درعا والقنيطرة المتصلين جغرافياً، والمحاذيين لهضبة الجولان. تمكن «الجولاني الأول» من السيطرة على معبر القنيطرة الحدودي مع الهضبة المحتلة، مع جملة من الفصائل الحليفة، قبل خمسة أشهر. احتجزت «جبهة النصرة» التي يقودُها الرجل عناصرَ من قوات حفظ السلام الدولية أثناء الاشتباك، ثم أفرجت عنهم في إطار حملة تسويق دعائي رعتها دولة خليجية.
لم يُبدِ الجانب الإسرائيلي قلقاً عميقاً جراء التطور، لكنه ضاعف من إجراءاته الاحترازية على الحدود، من غير أن يمتنع عن التدخل مباشرة أو مواربة لمصلحة المعارضة المسلحة، و«النصرة» من بينها، في مواجهاتها المندلعة مع الجيش النظامي. هكذا، أعلنت إسرائيل قصفها مواقع للجيش مع اشتداد المعارك في جوارها المباشر، وركزت تقاريرها الاستخبارية وصحافتها على استثمار الدولة العبرية في بعض فصائل ريف درعا، التي استُقبل المئاتُ من جرحاها في مستشفياتها على مدى العامين الماضيين.
لا تشكل «النصرة» خطراً آنياً على إسرائيل برغم ارتباطها بتنظيم «القاعدة» الأم، فأولويتها إسقاط النظام «النصيري» وإقامة إمارتها «الإسلامية» في بلاد الشام. تلك مهمة تشبه الوهم لأسباب يطول شرحها، برغم بداهتها. وأوهامُ المحيط الجغرافي، أكبرُ حليف لإسرائيل. لذلك، فالأخيرة تعتمد المبدأ الاقتصادي الشهير في سياستها الأمنية التي «تُرسمِل» على بعض الفصائل «الجهادية»: دعه يعمل، دعه يمر.
في المقابل، تَظهر مؤشرات متزايدة حول سعي «حزب الله» إلى ترجمة رؤيته التي أعلنها أمينه العام قبل أشهر، لناحية إدراج المجال السوري ضمن استراتيجية المواجهة مع إسرائيل. وقد ركّز تقرير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية حول توقعات العام 2015، الصادر قبل أسابيع، على تحركات الحزب قرب القنيطرة وعمله على «تشكيل مركز عمل معادٍ لإسرائيل في هضبة الجولان»، وأشار في هذا الإطار إلى دور جهاد مغنية بالاسم.
الضربة الإسرائيلية لـ «حزب الله» تأتي في هذا السياق، أي في سعيها لخنق نموذج جولاني له قبل أن يظهر. تحاول تل أبيب عبرها استباق محاولات الحزب استنساخ نفسه على حدودها السورية. فالمحاولة هذه ليست الأولى لـ «حزب الله» على مستوى الإقليم. وإسرائيل تدرك أن نجاح النماذج التي قدّمها في العراق واليمن، تفاوتَ بين ساحة وأخرى. غير أنها تعلم أيضاً بأن النماذج تلك أحدثت تغييراً كبيراً في المعادلات. وما ظاهرة الحوثيين في اليمن، إلا دليل دامغ على ذلك.
على أن نموذج «الحزب الجولاني» يختلف عن سوابقه في البلدين المذكورين. إذ يكاد يتطابق مع «حزب الله» لناحية الأداء الوظيفي المخصص أساساً للصراع مع إسرائيل، عوضاً عن ذاك القاضي بتثبيت بنىً مؤسسية وشبكات اجتماعية وقوى عسكرية تخوض حروب تغيير المعادلات أو تثبيتها، في دواخل المجتمعات المحلية حيث تستشري الفوضى.
وحركة الحزب في الجنوب السوري تَقدّمٌ متأن في حقل ألغام. فهو يخوض غمار المحاولة وجماعاتُ «الجهاد» التي تضع قلبَ النظام وقتالَ المغايرين السوريين في صلب أولوياتها، تبعد عنه كيلومترات قليلة. لكنه يدرك أن أي جماعة سورية على شاكلته، إن قُدّر لها أن تنمو، ستسحب كثيراً من البساط من تحت أقدام «الجهاديين»، خصوصاً أن هذا النمو يُفترض أن يحصل في أوساط «سنية»، تعوّل «النصرة» على استقطابها في معركة إقامة «الإمارة» شمال سوريا وجنوبها.
تدرك إسرائيل أن «حزب الله» الجولاني محاولة جنينية تحول دونها صعوبات كبرى، لكنها تأخذها على محمل الجد، وتخوض والحزب لذلك سباقاً مع الوقت. لا بيئة حاضنة واسعة ولا بنية تحتية مكتملة لـ «حزب الله» في جنوب سوريا. هذه معطيات راهنة ينطلق منها جميع المعنيين في تعاطيهم مع المسألة. على أن تأسيس الاثنين، إذا ما تم، سيجعل تعامل تل أبيب مع الظاهرة غاية في التعقيد والصعوبة.
وتوجه إسرائيل ضربتها أيضاً لأنها تخشى تخطي الحزب أزمة الشرعية التي سببتها له الحرب السورية ودوره فيها، على الصعيدين العربي والإسلامي، علماً بأن تضامن فصائل المقاومة الفلسطينية معه في مصابه الأخير وتنشيط العلاقات بين «حماس» وطهران، يؤشران إلى كوة يزداد اتساعها لمصلحته في هذا الإطار. وتل أبيب تعلم أهمية إقفال النوافذ التي يحاول الحزب فتحها.. وهي تتصرف على هذا الأساس.
بناء عليه، تراقب إسرائيل خط الجبهة الباردة في الجولان عن كثب، حيث المسألة لا تتعلق بالأسلحة النوعية التي أعلن عنها الأمين العام لـ «حزب الله» قبل أيام فحسب، بل بتحديد قواعد الاشتباك. لم يعد ذلك سراً بأي حالٍ من الأحوال. على أن أخطر ما في تعديل شروط اللعبة وقواعدها، هو تكرار النموذج ونقل التجربة اللذان كلّفاها غالياً في جنوب لبنان ولم تجد لهما حلاً بعد، برغم حرب 2006 المدمرة للبنان، والقرارات الدولية التالية المكبّلة لـ «حزب الله»، والمنعطفات الاستراتيجية في الإقليم، والتي شكلت الأزمة السورية أبرزها.
تترقب إسرائيل وتخشى نقل النموذج معدلاً، وفق ما يتناسب مع الواقعين الاجتماعي (الطائفي وخلافه) والجغرافي على حدودها مع الجولان. وهذا بحد ذاته يشكل تحديا بالغ الصعوبة لـ «حزب الله»، لكنه ليس بالمستحيل.
«حزب الله» الجولاني يشكل خطراً استراتيجياً على الكيان العبري. والأخير يدرك أن إجهاض الخطر قبل ولادته، هدفٌ ذو أولويةٍ مطلقة. فالولادة إذا ما تمت قد تنتج ديناميات تسمحُ بنموٍ سريع. وهذا لا يخلط الأوراق فحسب، بل يعيد الاعتبار للتضاد بين جملة من مكونات هذا المشرق، وبين كيانٍ يفيد من تناقضاتها، ومن تخلفها في تعريف الذات و «الآخر».