كأنْ لم تكن تلك الذكرى، الأربعين لتفجير «بوسطة» عين الرمانة. الاشارة الحمراء تعلن الانطلاق وظهور ما كان اختمر من اسباب الحروب، في 1958، وأحداثها ورسمها خطوطاً سوداء، لما هو مقابل ومقبل. لم تبدأ الحرب في 1975 وان تفجرت. كانت تهاويلها في المجتمع وفي الأحزاب، وفي النظام القائم: الناس من آثار التناقضات المذهبية، والأيديولوجية، الخبيئة، المكتومة، أو المقنعة. ولم يكن ينتظر كل ذلك سوى «عود الكبريت» لأن الهشيم كان يسبق الزمن. وكأن العدة التحتية قد اكتملت، للحظة المعلنة. أحداث 1958 كانت «بروة» أو مشهداً من فصول عديدة، بعد الوحدة بين مصر وسوريا، اقصد الوحدة التي لم تدم طويلاً لكن كان لها الترددات الصاخبة، والباطنية والنفسية لكي تزوّد ما قد يأتي بالظروف والأسباب عندما كان لها ان تمتد من بيروت إلى البسطة والجميزه والأشرفية إلى الجبل وبقاع أخرى. وكلنا يذكر (خصوصاً من عاشها وشهدها وخبرها)، تلك الانقسامات العضوية داخل الأفراد والجماعات. وأتذكر وكنت صبياً آنئذ، ما كان يحدث مثلاً في صالات السينما عندما يوضع النشيد الوطني: بعضهم يقف إجلالاً، والآخر يبقى جالساً رفضاً.
وعندها، ومن كلمة إلى كلمة، يقع اشتباك بالأيدي أو بزجاجات الكازوز بين من وقف وبين من لم يقف. بين من كان مع «لبنان» وبين من كان مع «العرب« (تصنيف مفتعل طبعاً) يعود إلى زمن اعلان لبنان الكبير وفيه طرابلس، التي كانت تنادي بالانضمام إلى سوريا باعتبارها جزءاً منها.
وأتذكر انه عندما كان يأتي فريق كرة قدم مصري مثلاً ليواجه فريقاً لبنانياً، كان هناك من يشجع الفريق المصري وآخرون يصفقون للبناني: انقسام الجروح التي لم تشف ندوبها التاريخية.
وعلى هذا الاساس كانت الجذور تمتد تحت الأرض وفوقها في الصمت وفي الكلام، في الموقف والموقع. كل ذلك من مخزون طويل لم ينفد، حتى أحداث أيلول الأسود في الأردن، ومجيء الثورة الفلسطينية رسمياً إلى لبنان وكان لها، قبل ذلك ملامح وانعطافات وفضاءات عند فئات عديدة من لبنان، من مذهبية، إلى أيديولوجية، إلى قومية عربية، وسورية ولبنانية وأممية شيوعية. قد تكون عندها البدايات من تحت: التسلح «تحت الأرض» والكلام إلى فوقها، ومن عايش تلك المرحلة يعرف أن الاصطدامات الأولى بين الجيش وبعض الفصائل الفلسطينية حدثت في عام 1969.
انه عام المنفتحات المهيئة لكشف الأوراق الداخلية، والاقليمية والدولية: لبنان الساحة الجديدة (بعد الأردن) للصراعات العربية والعربية والصراعات الأجنبية العربية، وكان لاسرائيل بعد انتصارها في 1967 واحتلالها أجزاء من مصر والأردن وسوريا واحتلالها القدس ما لها، من تداخل حتى مع القوى العربية المتشابكة، بمصالحها وتنافسها. لكن كل ذلك بدايات خلفية نصفها في العتمة ونصفها الآخر في الضوء. نصفها سياسي وارباعها مسلح، ونظن ان في عام 1969 كانت بدأت «طموحات» كثيرة حزبية لركوب التناقضات العربية، لتغيير الأمور، والدساتير وحتى النظام: اذن العدة السياسية والعسكرية والنفسية كانت جاهزة عند معظم «اللاعبين» أو «الملعوب بهم». وهنا بالذات، كانت لحظة الانتظار الكبير: متى؟ كيف؟ وأين؟ حتى جاء حدث «بوسطة عبين الرمانة» الذي لم يكن عفوياً، الذي سقط فيه ضحايا فلسطينيون وقائد يميني! وهكذا انقشع ما كان ضبابياً ومموهاً: خطوط التماس بين الشرقية والغربية، في انقسام ذريعة تحت عنوان «عروبة لبنان»، أو «الامتيازات» ونظامها المذهبي، والحقوق المهدورة للمسلمين بل وهنا بالذات اعتبر بعضهم، وعلى مراحل ان «جيش المقاومة الفلسطينية هو جيش المسلمين» في مواجهة الجيش اللبناني، لتكون ردة الفعل من الجهة الأخرى المسيحية: تنظيم مظاهرة تأييداً للجيش. ثم كان قرار تقسيم الجيش وتشرذم وتوزيع ضباطه وجنوده واسلحته ومدافعه ودباباته على الميليشيات.
وانتهت الدولة وضُربت المؤسسات وعمقت الحدود الفاصلة ابتداء بالمتحف هنا وبالسوديكو هناك وبالشياح هنا وعين الرمانة هنالك: انتصار «الهويات المذهبية» يعني الافراز المذهبي: كل من كان من تلك الطائفة هو عدو الطائفة الأخرى وصار القتل فعلاً يومياً، عادياً والمجازر انتشرت من المخيمات إلى المناطق ورافقها التهجير المذهبي «لتنظيف» المناطق وجعلها نقية لا يشوبها شائب أو استثناء إلا بما ندر.
وصارت بوسطة عين الرمانة ومقتلتها وتفجيرها كأنها مركبة عمومية، استقلها لبنان من منطقة إلى منطقة، ومن بيت إلى بيت ومن طريق إلى طريق ومن حاجز إلى حاجز ومن معركة إلى معركة ومن مجزرة إلى أخرى!
كان لبنان عندها فقد تعدديته وتنوعه (التعددية المذهبية ليست من التعدد بشيء) بل التقسيم الفكري والأيديولوجي والطائفي. الفراق الذي بدا بلا عودة. أف! وهنا بالذات، نلحظ بأسف كيف أن الأحزاب الشيوعية واليسارية والعلمانية والليبرالية واليمينية انخرطت كلها في حرب مذهبية مدوية بين شارع وطني وآخر غير وطني. بين شجرة وطنية وأخرى انعزالية. بين حوار وطني وآخر انعزالي. طُيِّفت الأمكنة بالدم وكذلك الطبيعة والتاريخ واستفاد بعض اليساريين من ثقافتهم «التاريخية» والجدلية لينظروا ويبرروا «للطائفية، الوطنية، أو المذهبية ! وقع الجميع في الفخ» وعندما ظنوا انهم عبر تناقضات الواقع والخراب يمكن ان يحافظ واحدهم على «نظامه» والآخر ان يغيره. الأول بالدعم السوري الذي دخل على الخط في مواجهة الحضور الفلسطيني المتنامي والآخر بالدعم الفلسطيني. هذه الانقسامات لم تكن «فوقية» فقط أو نخبوية (انخرط كثير من النخبويين العباقرة في هذه المستنقعات ونعرفهم كلهم) حتى صارت القضية اللبنانية تحميها ما سميت «المقاومة اللبنانية« (شرقية)= الجبهة اللبنانية والقضية العربية من ممتلكات المقاومة الفلسطينية (نتذكر المقاومة الشعبية في احداث 1958 ) (وكنت انا صغير السن في تلك المرحلة!) اذاً لا مكان لأي تهجين: النقاء «الطائفي» سائد! هنا بقيادة الموارنة وهناك بقيادة الحركة الوطنية التي ضمت، تحت رعاية منظمة التحرير الأحزاب اليسارية (الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي والحزب التقدمي الاشتراكي والحزب القومي السوري الاجتماعي) ترفدها أحزاب وحركات ناصرية «المرابطون» (ابراهيم قليلات). كأنما كانت «الجبهة اللبنانية» و»الحركة الوطنية» تعومان على غيوم من الدم ودخان الحرائق والعنف والجنون والتمييز المذهبي: كلهم صاروا طائفيين! يا للوعة التاريخ (نعم نستثني هنا الزعيم الكبير ريمون اده الذي اتخذ موقفاً ضد انخراط الموارنة في لعبة الحرب وخُوِّن آنذاك وتعرض لمحاولتي اغتيال واحدة في «الشرقية» وأخرى من قبل السوريين قرب بيته في الحمراء.
[ مجاز «البوسطة»
«فالبوسطة» أولاً وأخيراً مجاز» : أولاً فهي ضمّت فلسطينيين ثم الفاعل «اللبناني- الواجهة» بقي مجهولاً، ثالثاً انها بداية مشوارين: 1) الحرب السياسية الداخلية حول اهل النظام ومعارضيه، 2) الحرب لتصفية المقاومة الفلسطينية التي ازدادت قوة وكذلك اخطاء سواء في الجنوب أو داخل الكواليس السياسية وزواريبها، 3) بروز اسرائيل كشبح وراء كثير من الاغتيالات والمجازر لتعميق الشروخ بين منظمة التحرير واللبنانيين، 4) بروز الرديف الآخر لاسرائيل وهو النظام السوري عبر «انحيازه» الى «المسيحيين« ليظهر حافظ الأسد كمنقذ لهم (راجعوا «خطابه التاريخي») ويستغل ذلك لمبادأة حربه على عرفات الذي رفع شعار «القرار الفلسطيني المستقل«، وهذا ما ارًّق الرئيس الاسد، فجهد لتقسيم الثورة الفلسطينية عبر فصائل معينة (وعلى رأسها العميل احمد جبريل) فلم يكن له سوى استغلال موقف «بعض المسيحيين« للدخول إلى لبنان، لتحطيم كل قرار مستقل وليستولي على الورقة الفلسطينية، 4) دخول العديد من الأنظمة العربية في هذه الصراعات، بسلاحها ومالها وعتادها، وصحافتها، خصوصاً العراق (صدام حسين)، وليبيا (القذافي)، ليتحول لبنان عدة ساحات: فلسطينية فلسطينية: فتح ضد «الصاعقة» (صنيعة سوريا)، فلسطينية سورية، عربية عربية، عربية إسرائيلية فلسطينية، دولية: أميركية سوفياتية.
وإذا كانت «البوسطة» وتفجيرها مجازاً معبراً عن الصراع السوري المسيحي الإسرائيلي، فإن أولى ثماره كانت إسقاط مخيم تل الزعتر: الواجهة ميليشيات «مسيحية« والخلفية سورية (كان الضباط السوريون يديرون المعركة من برمانا وبيت مري)؛ وسقوط تل الزعتر، كان أول ضربة لما يسمى «المارونية السياسية» (كأنها أعلنت العداء للقضية العربية المركزية بكل تبعاتها، وأول مرحلة من مخطط معقد لضرب الثورة الفلسطينية المسلحة وروافدها العربية) في لبنان، لكي يعقب ذلك غزو إسرائيل لبنان وتصفية المقاومة الفلسطينية في الجنوب: إذاً إسقاط تل الزعتر يوازيه جغرافياً وسياسياً الغزو الإسرائيلي وحصار بيروت، ثم الحرب على المخيمات في الشمال، البقاع وطرابلس، وآخر تلك المعارك تلك التي أُجبر فيها عرفات على الانسحاب من طرابلس بعد خروجه من الجنوب وبيروت. وكأن مجاز بوسطة عين الرمانة يتجسد في كل هذه الحروب: بسقوط الشرعية اللبنانية، والدولة، وانهيار المقاومة الفلسطينية ودخول القوات السورية إلى لبنان، كمكافأة إسرائيلية أميركية على حربها على المقاومة الفلسطينية، وبعدها المقاومة الوطنية. وإذا كان هذا الدخول يمكن أن يضيء على أسباب وأبطال تفجير البوسطة، فإنه أيضاً يفتح مرحلة تلازم الوصاية السورية والاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً بعد إنشاء حزب الله، ومقاومته كبديل إيراني سوريا (شيعي) للمقاومة الفلسطينية العروبية (السنية). قد تكون كل هذه إشارات إلى حروب الأميركيين وإسرائيل ضد الأنظمة السنية العربية (حرب بوش على العراق وإسقاطه أول رئيس سني منذ ألف عام)، ترفدها الإرادة الإيرانية الفارسية، كجزء «جديد» من الهوية «الشيعية»! وفي هذا الإطار، نفهم جيداً كيف دفّعت سوريا المارونية السياسية ثمن حلفها معها، بنفي زعمائها بعد ذلك من ريمون إده إلى ميشال عون (بعد حرب التحرير الفاشلة والتافهة)، إلى الرئيس أمين الجميل، وزج سمير جعجع في السجن. وفي موازاة ذلك ممارسة إرهاب على الزعماء والرموز السنية، إما بنفيهم (ابراهيم قليلات، صائب سلام، تقي الدين الصلح واغتيال المفتي حسن خالد والشيخ صبحي الصالح والصحافي سليم اللوزي وصولاً إلى الزعامة العروبية الدرزية الاشتراكية الكبيرة كمال جنبلاط. وهنا تبدو بجلاء مساحات الرهان على المعطى الشيعي الموالي لها، خصوصاً (بعدها) حزب الله و»أمل» (بعد اختفاء الإمام الكبير موسى الصدر) وصولاً إلى المقاومة الإيرانية في الجنوب: انتقلت قرارات الحرب والسلم من أيدي العرب إلى أيدي الفرس)، كل ذلك ليردف قوة الوصاية السورية (المدعومة من أميركا وإسرائيل) المتصاعدة، التي تمكنت بعد هزيمة الجنرال عون في حربه التحريرية، من السيطرة على كل لبنان. فمن البوسطة، إلى الحرب على المقاومة الفلسطينية، إلى العروبة، فإلى اليسار (قتل السوريون بعض رموز الحزب الشيوعي، مهدي عامل، حسين مروة، سهيل طويلة)، فإلى ضرب كل المؤسسات المدنية والنقابية والحزبية والسياسية والهيمنة الكاملة على لبنان، وآخر تجلياتها الرائعة: إميل لحود! (الذي لا مثيل له!): تخلّت كل الميليشيات المتناحرة سلاحها وانخرطت في الدولة، لتنشط سوريا في السيطرة على المخيمات الفلسطينية، وتسلح جماعات حزبية، وتبقي على السلاح الميليشيوي لحزب الله حتى بعد «تحرير الجنوب» (والتباساته) ونظن، أن هذه التراكمات منذ 1975 (وقبل ذلك 1969)، بنتائجها أنتجت تحالفاً عضوياً مصيرياً بين إيران وسوريا ليتقاسما لبنان، وأنتجت حذف لبنان من الخارطة السياسية، وضرب سيادته في أقل تفاصيلها، وشرعت حدوده… وحوّلت الأنظار من «الجولان المتهود المحتل» إلى لبنان في حرب جهادية مزعومة. كأن تقول «زال لبنان». لكن هذه التراكمات (وبإيجاز لضيق الحيز) أيضاً أنتجت مشاعر داخلية مكبوتة ومقموعة، ناتجة عن القهر، والقمع، والتسلط، والتلاعب بمصير البلد، من قبل السوريين والإيرانيين، هذه المشاعر الباطنية الجوفية التي ما كان لها أن تظهر سوى في مواجهات محدودة مع النظام السوري (معارك الأشرفية، طرابلس)، قد بدأت «تطفو»، وإن بخفر؛ إرادة الخروج من هذا النفق السوري الإيراني، راحت تتجلى في بعض الأحداث، بخفوت هنا، وبارتفاع هناك، حتى كان اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري: المتهم بارتكابه سوريا وحزب الله! وما كان مستبطناً، تفجر، كأنما دم الحريري فتح الطرقات والآفاق المغلقة للانتهاء من هذا الزمن المرعب. وكانت ثورة الربيع العربي، وكان طرد الجيش السوري، وطي صفحة لتفتح أخرى، تعلن السيادة، والدولة والاستقلال (الثاني)، والديموقراطية، والعروبة الحضارية ولبنان الحر…
[ بوسطة حزب سليماني
فتاريخ «بوسطة عين الرمانة« بدأ قبل تفجيرها، واستمر في الجولات والمراحل بعدها: فهي «البوسطة» التي استقلتها «كتاكسي» مقاومة حزب إيران، لتفجر لبنان، وتستفرده، بدولته، وشعبه، وانتماءاته، وتاريخه… بعد خروج الوصاية السورية العسكرية! فمن «بوسطة إلى بوسطة»، تأرجح لبنان بالدم، والرعب، والحروب… لتكون آخر «بوسطات» الحزب الفارسي في سوريا… وفي اليمن، بل لتتحول هذه «البوسطة» إلى شركة مواصلات تُحّمِل بالقتلى والدم… والخراب. لكن يبدو أن «بوسطة» اليمن تعطلت قبل وصولها، بتلك العاصفة العروبية التي أطلقتها السعودية على الانقلاب الفارسي على الشرعية في اليمن. بل كأن بوسطة عين الرمانة التي يقال أن المخابرات السورية وراء جريمتها، صارت النظام المتفجر، والجغرافيا المتفجرة… بل كأن كل الذين ساهموا في تعميق الحروب في لبنان… ركب كل منهم في بوسطته الأخيرة: من القذافي، إلى صدام حسين، إلى آل الأسد… ربما بقيت بوسطة حزب الله في لبنان اليوم، لكن صارت عتيقة، لا تحتاج سوى إلى الرمي… في مزبلة التاريخ!