عندما يُقدِم طرف سياسي إستراتيجي ذو مكانة محلية وقدرة تخطيطية على مقاربات وطنية ضعيفة المنطق والحجج، فاقدة للوقائع والحقائق، فذلك يعني أنّ خطوته تندرج من ضمن مخطّط إحتيالي خطير يهدف للدفع بإتجاهات مصيرية، ولكنه في الوقت ذاته يخشى تحمّل عواقب أعماله، فيسعى لرميها على الآخرين. وهذا ما يتوضّح فعلياً من خلال مواقف قادة ومُفكّري “حزب الله” في الآونة الأخيرة وتصريحاتهم العالية النبرة التي تحمل الكثير من التعابير الإستفزازية المقصودة والصادرة على لسان الشيخ نعيم قاسم وغيره من الموجِّهين عقائدياً، حيث ورد فيها دعوات لكل اللبنانيين غير المنتمين الى “حزب الله”، “قناعةً” للتفكير في الإستعداد للإستسلام لمفاهيمهم والإستغناء عن الهوية والوطن الذي كوّن المساحة للشراكة اللبنانية. إن التخطيط الشيطاني المُرفق بالتقيّة والهادف للفتنة، يتوضّح من خلال المواقف الإلغائية، والدعوة المباشرة إمّا للإستسلام وإمّا لتحمّل الإتهامات بالفتنة، مع علم “حزب الله” المُسبق بأن الفريق الذي يتصدّر جبهة الرفض للإستسلام، هو حزب “القوات اللبنانية”، وقد بدأ الحزب منذ فترةٍ بحملة إتهامية ضدّه بشخص أمينه العام.
إنّ الصمود الفكري والإجتماعي والسياسي الذي أثبته أحرار لبنان، وبشكل خاص الفريق القواتي بوجه عنجهية “حزب الله” وإملاءاته تحشر هذا الحزب الإلغائي وتضعه أمام واقع التراجع عن محاولاته، ولكنه وللأسف ذهب الى الهروب للأمام بالدفع بإتجاه العنف وإتهام معارضيه بالفتنة لمجرّد تجرّؤهم لمعارضته.
لم يتفاجأ اللبنانيون وخاصةً المتابعين منهم، باللهجة التهديدية التي لجأ لها قياديو “حزب الله”، كون الوضع الإنهياري الذي يشهده الوطن بإدارة فريقهم قد وضعه أمام خطر السقوط المُتدرِّج، كما لم يتفاجأوا بالنزعة الإستخفافية التي يتعامل بها مع آراء اللبنانيين الآخرين. فـ”حزب الله” أثبت تمسّكه بمعاييره للقوة المرتكزة على هالة السلاح وسطوته، إمّا تهويلاً وإما تهديداً وتذكيراً، وإمّا فعاليةً عند لزومه له. فحين إستعمل “حزب الله” سياسة التعطيل وعمل على شلّ المؤسسات الرسمية والخاصة، غير عابئ بمصالح الشعب، وبتأثير ذلك على حياتهم وعلى الإقتصاد الوطني، فقد برهن بذلك إستكباره المُستمدّ من جهوزيته الأمنية والعسكرية وإرتباطه مع مشروع توسّعي إقليمي عسكري وعقائدي، مَا فتح له المجال للتعاطي مع الآخرين بلغة التخوين والتعنيف والتهديد بوسائل اللاشرعية. إن القوة والعنف والإشارة الى الإلغاء الجسدي ناتجة عن فقدان الحزب للغة العقل وذهابه الى فعالية السلاح. ولكن في الوقت ذاته، يرمي مسؤولية عواقب ذلك على معارضيه لتحميلهم مساوئ الفتنة وأضرارها التدميرية، ليؤكد صوابية قول الامام علي بن ابي طالب “إذا رأيت الظالم مستمرّاً بظلمه، فاعرف أنّ نهايته محتومة، وإذا رأيت المظلوم مستمراً بمقاومته فاعرف أنّ إنتصاره محتوم”.
يتعمّد “حزب الله” إستراتيجية فرض وجهة نظره من خلال التجاهل الذي يُمارسه مع وجهة النظر الأخرى التي تقف عائقاً بوجه مخطّطاته، ويسعى لضربها عندما تُزعجه، والتآمر عليها عندما يعجز عن المسّ بها مباشرةً. وفي كل الأحوال، يبقى مبدأ عدم الإعتراف بالآخر هو عقيدته التي يؤدلج عليها أتباعه ويُجمهرهم خلف السيّد الذي ينقل لهم إرشادات الولي الفقيه، وبذلك أفقد بيئته القدرة على التجاوب مع البيئات الأخرى وتقبّل الانفتاح على التثقّف، وعلى اللجوء الى الحوار والتبادل، وبفتاويه أدخل بيئته الى الإنغلاق والإستقواء بوهم القوة. إنّ إعتقاد مسؤولي “حزب الله” بحقّهم بصفة النبل والشرف، أبعدهم عن المسار التطويري الطبيعي في كافة المجالات، وخاصة الإقتصادية والإجتماعية والفكرية، وأصبحت السياسة اليومية بتكليف وطاعة، وهذا الواقع يتنافى تماماً مع أفكار الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، عندما دعا الشيعة في لبنان الى إعتماد الديموقراطية والشراكة في الحكم والإندماج الوطني، مُنبّهاً اياهم من الخروج من الشراكة، لأن أي خروج بالنسبة له كان دعوة الى الفتنة، وتورّطاً في العزلة، ووقوعاً في فخ الإستخدام من قبل المشاريع الخارجية التي تضرّ بالبلاد والعباد.
سقط “حزب الله” في علاقاته مع اللبناني الآخر حين تشاطر عليه وأخذ من بعضه أغطيةً لأدائه المُتسلّط، ولم يُحاور، بل رغّب ورهّب، وسعى لعزل رافضيه، ورفض الحوار معهم، ففقد بذلك فنّ الحوار وحسّ المسؤولية للوصول الى الحلول، وضرب فئته وعزلها وأغرقها في الأزمات مع كافة الآخرين، وغرز فيها وزرع وسقى ونمّى لغة العنف، متأمّلاً فرض واقعه ورؤياه وعقيدته وطرحه من خلال ذلك، لكنه أصبح الأضعف بين الجميع، فرمى الإتهامات بالفتنة على الآخرين، وأسقط نفسه في الفخ، وبات يواجه لا فعالية العنف ولا نفعية الإتهامات الباطلة وسقوط المردود الإيجابي للفتنة على مشروعه، فهل يتّعظ؟