كلما بالغ السياسيون في تصوير الأوضاع على أنها بألف خير، فهذا يعني أنها سيئة. ما قاله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بأنه في بيت الدين زيادة في الطمأنينة، يعني أن الأمور ليست على خير. ومن يعرف عون جيداً، يعرف أن الأخير حين يكثر من المديح ومن الإشادة بقضية لا تسرّه في الأساس، فهذا يؤشر على أنه مستاء جداً ممّا حصل، ومن اضطراره إلى تدوير الزوايا في الشكل الذي حصل أخيراً.
ولأنه كذلك، بات أمام واقع لا يمكن التراجع عنه، وهو الإحاطة الشاملة بالوضع الداخلي، بناءً على نصائح خارجية وداخلية. لكن التهدئة التي لم تشمل الوزير جبران باسيل، ستضع عون أمام حالة جديدة منذ انتخابه، وهي اضطراره إلى تقديم تنازلات مباشرة «غير معلنة»، من أجل الخروج من المأزق الذي دخل فيه وأدخله فيه بعض فريقه، وهو الأمر الذي يحاول باسيل أن يحيّد نفسه عنه. فلا الحل الذي صار لأزمة قبرشمون يرضيه، ولا حكما الطريقة التي أعيد فيها تعويم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.
مع الدعوتين إلى زيارة المختارة وخلدة، صار لزاماً على عون، الذي كان حاضراً منذ لحظات المواجهة الأولى، بخلاف مواضيع أخرى كان يترك لباسيل المواجهة فيها، إما تفاديهما وعدم تكريس هذه السابقة على رئيس الجمهورية، أو اللجوء إلى «ستة وستة مكرر»، في أن يزور كليهما. ولا سيما أن زيارة خلدة تشكل إنقاذاً لماء وجه رئيس الحزب الديموقراطي، الأمير طلال أرسلان، لأنه في نتيجة ما آلت إليه الأمور، فإن أرسلان نال حصة كبيرة من الخسارة، ومعه عائلتا ضحيتي «البساتين». فلا المجلس العدلي أبصر النور، ولا جنبلاط طُوِّق، بل العكس تماماً، إذ حصد أوسع حملة تضامن محلية ودولية معه. من هنا، يحتاج موقف عون منذ الحادثة وحتى التهدئة، إلى الكثير من الترقب، لأن التحدي الأكبر هو مفاعيل التسوية في الملفات الداخلية اللاحقة، بعد أن تطوى صفحة الحادثة وفورة العواطف والمصالحات، ويعود رئيس الجمهورية من بيت الدين إلى بعبدا، لمواجهة مرحلة جديدة، لا يمكن بعد اليوم تخطي آثارها.
حتى الآن لا يزال عون في موضع المستكين ظرفياً إلى التهدئة، بعدما انتفت عناصر المواجهة، بانسحاب حزب الله منها. فبين كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الأول والثاني خلال مرحلة قصيرة، مسافة في اللهجة المعتمدة حيال جنبلاط. في اللحظات الأخيرة التي سبقت التسوية، وقف حزب الله جانباً، وراء الرئيس نبيه بري، واختار لحظة مناسبة، لاستيعاب الحل ومباركته. لكنه بذلك ترك عون وجنبلاط، في مواجهة ثنائية، يحصد كلاهما أثمانها. خرج الحزب من التوتر ومن التهدئة، من دون أكلاف، تحملها حلفاؤه وحدهم، وفي الساحة التي لا وجود مباشراً له فيها. فما حصل على أرض الشوف، لا يمسّه ميدانياً، وأي مواجهة بين الأطراف الذين تورطوا في الحادثة وتداعياتها، لا يدفع هو ثمنه إلا بمقدار الاستغلال السياسي لفوز أي فريق على آخر. وهو ما حرص منذ اللحظة الأولى للحادثة على منع جنبلاط من تحقيقه. لذا، بقدر موافقته على إخراج الحل، لن يصرف النظر مجدداً عن استغلالها لاحقاً لتسجيل جنبلاط أي فوز تصاعدي. لكنه يدرك في الوقت نفسه أن رئيس الحزب التقدمي لن يغامر مجدداً في استثمار التعاطف الغربي معه، ليرتدّ على الحزب، ولن يصوّب سهامه إلا على الطرف الذي يخاصمه على أرضه.
جنبلاط لن يغامر مجدداً في استثمار التعاطف الغربي معه، ليرتدّ على حزب الله
وعلى هذه الأرض، من المبكر القول إن ما حصل طُوي نهائياً بين الطرفين المعنيَّين. فبقدر ما هناك مبالغة في تصوير استتباب الأوضاع، لا تكون الأمور كذلك. فأحداث الجبل ليست خلافاً سياسياً بين حزبين فحسب، بل صبّت في صورة أساسية في خلاف مسيحي درزي، تحول في لحظة مأسوية خلافاً درزياً درزياً. لا يزال هناك من يوقد نار الخلاف المسيحي – الدرزي، ولا يزال هناك من يرى أن فريقاً مسيحياً، هو التيار الوطني الحر، لن يوفر جهداً في استمرار تذكية خطاب الحقوق المسيحية وحق الوجود في الشوف من دون استئذان أحد، ولو أن هذا الخطاب مكلف ولا يصرف حقيقة في قرى جبل لبنان الجنوبي. في المقابل، إن تكثيف اللقاءات الدرزية – المسيحية (القواتية تحديداً) في الأيام الأخيرة، ليس أمراً مشجعاً، لأنه يصبّ في خانة الاعتراف بأن الآثار السلبية للحادثة كثيرة، وأن الأمور تحتاج عند كل استحقاق إلى استنفار الجهود لإعادة تأكيد الثوابت والمصالحة والعيش المشترك. وهذا في حد ذاته خطأ.
من هنا، ستكون مرحلة ما بعد لقاء بعبدا وبيت الدين، اختباراً للنيات الحقيقية، حول ماهية التسوية وصلاحيتها، فهل هي ظرفية في المكان والزمان ولا تتعدى حدود قضاءي الشوف وعاليه، والأطراف المعنيين وحدهم، أم تتوسع في إطار تطبيع الوضع الداخلي، فلا تأخذ المواجهة أشكالاً أخرى تترجم في الحكومة وفي الملفات الكثيرة العالقة، وفي العودة إلى طرح ملفات خلافية دستورية وسياسية معاً.