بعد أقل من ثمانية وأربعين ساعة على انتهاء أعمال القمّة العربية الثانية والثلاثين نفذ حزب الله في منطقة «مليتا الجنوبية» ما أسماه «مناورة عسكرية» بمناسبة عيد المقاومة والتحرير، للتأكيد على «الجهوزية الدائمة للمقاومة الإسلامية في مواجهة أي عدوان ولتثبيت معادلة الردع التي حمت لبنان وحمت ثرواته»، كما جاء في كلمة رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله هاشم صفي الدين أمام مجموعة من الإعلاميين.
لم ينجح الإعلان المبكر عن المناورة في تسربها إلى جدول أعمال القمّة العربية المنعقدة في جدة في التاسع عشر من أيار/ مايو الحالي أو في دفع أي من المجتمعين لتناولها أو في حجز زاوية لها في متن إعلان القمّة الختامي. إقتصرت أصداء المناورة على الداخل، تلويحاً بالسلاح باتّجاه خصوم الحزب على خلفية تعثر محاولات تسويق الوزير السابق سليمان فرنجية كمرشح لا بديل عنه لرئاسة الجمهورية، أو باتّجاه جمهور الحزب حيث تقتضي حالة التحلل السياسي القائمة وافتقاد المبادرة التأكيد أن الفشل في فرض رئيس للجمهورية على اللبنانيين لا يفسد في استمرار الإحتفاظ بالسلاح قضية.
غياب أمين عام حزب الله حسن نصرالله عن المشهد وغياب التمثيل الدبلوماسي لا سيما السفارة الإيرانية لا يمكن قراءتهما إلا من قبيل الإلتزام الإيراني ببنود الإتّفاق مع السعودية وعدم دعم الميليشيات الخارجة عن سلطة الدولة، وهذا ما أفقد الحدث صدارته وجديّته وقدرته على إيصال الرسائل. بالإضافة إلى ذلك فلم تعد تستوقف اللبنانيين عبارات التهديد والتحذير باتّجاه العدو الإسرائيلي التي تحوّلت ردحاً عابراً للحدود ونوعاً من المتممات الصوتية للمشهد يلجأ إليها الطرفان من حين لآخر لاستيعاب موقف داخلي، وبما يلاقي مقولة النظام السوري الشهيرة «نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين» وليس أكثر. وفي الخلاصة لم يستوقف المشهد العبثي في الجنوب اهتمام المتلقين سواء في الداخل أو في الخارج إلا بمقدار تأكيده على صورة الدولة الفاشلة والواهنة.
في جدة لم يكن الموقف مختلفاً عنه في الجنوب، إذ عبّرت كلمة الوفد اللبناني عن وجه آخر للدولة الفاشلة. غابت الشجاعة في نقل الموقف الحقيقي لمعاناة لبنان وغابت الرؤية لاقتراح الحلول وغلبت على المشهد سمات الشكوى والتسوّل. بالمقابل كان المشهد العربي أكثر إقداماً حيث تناول إعلان جدة لبنان في فقرتين من فقراته، مشدداً على «وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلّحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة»، كما حث الأطراف اللبنانية على التحاور لانتخاب رئيس للجمهورية يرضي طموحات اللبنانيين، وانتظام عمل المؤسسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته. وفي هاتين الفقرتين ما يؤكد على الركيزة الأساس التي بني عليها الإتّفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران وأحد أبرز الإلتزامات التي أعادت لسوريا عضويتها في الجامعة العربية وهي احترام سيادة الدول.
لن تصنف مناورة حزب الله بأكثر من حدثٍ داخلي لبناني وفقاً للمعايير الإقليمية المعتمدة بعد الإتّفاق السعودي الإيراني، وهي لن تلقى مهما أضيف إليها أي صدى لدى طهران أو أي موقف عربي معترض، وعلى ذلك ستنسحب كلّ المناورات الأمنية والسياسية التي قد يلجأ إليها الحزب أو سواه لابتزاز الخارج في اختيار رئيس للجمهورية أو في أي موضوع داخلي آخر.
إن ما ورد في كلمة صفي الدين لجهة توحيد جبهات المقاومة لا يتجاوز التعبير اللفظي، فاللبنانيون لا زالوا يذكرون كيف تحوّل سهل القليلة في جنوب لبنان منذ العام 2009 الى منصة معتمدة لإطلاق وتلقي الصواريخ بين إسرائيل وحزب الله وفصائل فلسطينية، ومنها كتائب بدر الجهادية في العام 2007 وكتائب عبدالله عزام في العام 2014. وكان آخرها حادثة إطلاق الصواريخ في شهر نيسان/ ابريل المنصرم التي أجمعت إسرائيل مع الحزب على عدم مسؤوليته عنها، بما يؤكد على وجود قواعد اشتباك غير معلنة تتجاوز القرار 1701. كذلك فإن ما يدّعيه حزب الله في موضوع حماية ثروة لبنان النفطية والتي تطرق إليها صفي الدين لم يكن سوى نتاجاً لتسوية رعتها الولايات المتّحدة وأضحت حمايتها رهناً بقواعد اشتباك دولية بموافقة إيرانية وبما يتجاوز قدرة حزب الله على رفضها.
تكمن صعوبة خروج لبنان من أزماته تاريخياً في غياب القدرة على القرار وفي انصياعه الدائم للخارج، وقد تجذرت الحالة اللبنانية بعد نشوء نماذج جديدة من الإقطاع السياسي بفعل تسرب الفساد بأبعاده المادية والأخلاقية إلى نظام الحوكمة القائم. لا يبدو الخارج مستعداً لتكرار تجاربه السابقة مع لبنان بإنعاش أهل السلطة ولن تنجح محاولات استدراجه الى وحول الداخل. الخارج الجديد لا سيما دول الإقليم التي اختبرت الإستقرار واحترام القوانين وخاضت ميادين التقانة والعالم الرقمي يدعو لبنان للإلتحاق به، فهل يتخذ اللبنانيون خيارهم أم يمعنون في بداوتهم المستوردة إلى ما لا نهاية ؟؟
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات