قبل ساعات من بدء اعمال مؤتمر فيينا جلس وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر، ومعه الجنرال جوزيف دنفورد رئيس هيئة الأركان الأميركية امام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس،عرف الرجلان ان ثمة من «يكمن» لهما في الجلسة انطلاقا من الحرب في سوريا، فكان لابد من «المراوغة». السيناتور ليندسي غراهام توجه الى دنفورد بسؤال واضح وصريح لا يقبل اي التباس، وقال «هل أميركا تريد إزاحة بشار الأسد الذي يريد شعبه أن يسقطه لقتله أكثر من 250 ألف شخص». فكان جواب دنفورد أنه لا يعرف! وحين سأله إن كانت القوات التي تدعمها أميركا في سوريا قررت أن تسقط الأسد فهل ستدعمها في قرارها، فكان الجواب، مجددا، أنه لا يعرف! وحين سأل غراهام وزير الدفاع إن كان الموالون لأميركا في سوريا يريدون إسقاط الأسد فقال «إنهم يريدون محاربة «داعش»! هل وصلت تلك «الرسالة» الى بيروت؟
قيادي بارز في 8 آذار، يقول مندهشا انه لا يعرف كيف لم تصل الى البعض! واشنطن تتراجع «خطوات الى الوراء» فيما حلفاؤها في بيروت يصرون على «المكابرة». ويتسائل عما اذا كانت قوى 14 آذار تتابع بجدية انقلاب المشهد السياسي والميداني في المنطقة، خصوصا اثر عمليات «التشويش» «الصبيانية» على المشاركة اللبنانية في المؤتمر. فاذا كان حزب الكتائب يصر على اصدار المواقف بـ «طعمة» ومن دون «طعمة»، لان شعاره في هذه المرحلة «انا اتكلم فانا موجود». فان النائب وليد جنبلاط الذي طلب من وزرائه، كما طلب وزراء الكتائب من الرئيس تمام سلام الزام وزير الخارجية جبران باسيل بالتمسك بسياسة «النأي» بالنفس على طاولة المباحثات السورية في فيينا، ويجدد التزاماته امام القيادة السعودية، بعد ان اعادت زيارته الاخيرة الى المملكة «المياه الى مجاريها». لكن الا يحتاج المشهد العام بعد التدخل الروسي العسكري، واجبار واشنطن الرياض على «هضم» المشاركة الايرانية في المحادثات الى مراجعة. ربما يرغب الكثيرون بذلك لكن ثمة ضغوط سعودية كبيرة على الحلفاء في بيروت، لكن اين يمكن صرفها؟
لا يبدو انها قابلة للصرف برأي تلك الاوساط، لان ما يصدر من تعليقات من قبل هؤلاء لا يمت الى الواقع بصلة. فرئيس الحكومة وتيار المستقبل وكل حلفاء الرياض يدركون جيدا انهم غير ممثلين في العاصمة النمساوية، وزير خارجيتهم العائد للتو من طهران، يدخل الى قاعة الاجتماعات يرافقه «طيف» حزب الله، الطرف الوحيد الذي يجعل لوجوده «طعم ولون» هناك. فلماذا «الثرثرة»؟
انها «لزوم ما لا يلزم»، فبحسب اوساط دبلوماسية عربية تواكب مع يحصل في فيينا، لا احد من الجالسين على طاولة المفاوضات في فيينا يرى في لبنان دولة «حيادية» في الصراع السوري. بالطبع لا احد يصنف لبنان كجزء من التحالف الذي تقوده السعودية ضد النظام في سوريا، لا الانتماء السياسي لوزير الخارجية، ولا اسم رئيس الحكومة كان يمكن ان يغير من واقع الامور شيئا. بكل بساطة هذا البلد الصغير موجود على «طاولة الكبار» لسبب وحيد اسمه حزب الله، واذا ما ذكّر الوزير جبران باسيل بموقف الدولة اللبنانية المتمسكة بـ «شراسة» بسياسة «النأي» بالنفس، فهو بكل تأكيد سيثير سخرية الحاضرين بكلام انشائي فارغ من اي مضمون، لبنان حاضر بقوة لان ثمة من قرر ان يكون لاعبا في المنطقة، وليس مجرد «جمهور» على «المدرجات»، وعندما دخل حزب الله الى سوريا غيّر المعادلة في المنطقة.
وتضيف تلك الاوساط، «الاصدقاء» و«الاعداء» الجالسون قبالة باسيل يدركون ان قوة لبنان هذه المرة ليست بضعفه، بل بقوته، فهو ليس مجرد دولة تتسول المساعدات لايواء اللاجئين. جميع «اللاعبين» يدركون ان الدولة السورية كانت مهددة بالسقوط بعد اغتيال خلية الازمة في دمشق، لكن من خطط ونفذ لم يلحظ في خططه ان المقاومة سبقته الى الميدان السوري امنيا وعسكريا وساهم تدخلها السريع في عدد من النقاط الاستراتيجية بضرب الخلايا المعدة سلفا للانقضاض على العاصمة السورية. تغير المشهد بعد ساعات وجرى استيعاب «الصدمة»، وكانت تلك الحادثة، اضافة الى سقوط القصير «نقطة التحول» الاستراتيجية في السياسة الاميركية على الساحة السورية. فبعد ان اجهضت المقاومة نتائج عملية الاغتيال، ادركت الاستخبارات الاميركية يومها ان ثمة تحولاً دراماتيكياً في الاحداث يجعل مهمة اسقاط النظام السوري متعذرة، تراجعت عندها «خطوة الى الوراء»، تولى حلفاؤها في الاقليم المهمة، جاءت «صفقة» الكيميائي لتجهز على آمالهم بتدخل اميركي مباشر في الاحداث. واليوم باتوا « مقتنعين ان الخلافات بين الأجندتين الروسية والأميركية حول سوريا قد تقلّصت كثيراً وأن ما يجري في الخفاء من تنسيق لا يتطابق بالضرورة مع التصريحات الدبلوماسية الأميركية عن ضرورة رحيل الأسد.
والاكثر من ذلك تقف واشنطن متفرجة امام التدخل العسكري الروسي في سوريا، وحتى استهداف المجموعات المدعومة من قبل حلفائها لم يؤد الى اي تحرك جدي، وجاءت الغارات الجوية على مناطق في محافظة درعا، قبل ساعات من مؤتمر فيينا، بمثابة «الرسالة» الواضحة لحلفائها بانها «غير راغبة» على وضع خطوط حمراء امام موسكو ميدانيا، وهذا يعني المزيد من الضغط على المواقف التركية والسعودية والقطرية.
وامام هذه المعطيات، يبدو واضحا ان التسوية في سوريا والمنطقة، لم تنضج بعد. الاجندات لا تزال متعارضة، وما يحصل في فيينا هو «اول الكلام». سيشهد الميدان السوري واليمني المزيد من التصعيد لان طرفي النزاع يريدان تجميع المزيد من «اوراق القوة». هذا يعني ان الطريق لا يزال طويلا امام الخروج من «النفق»، الرياض لا تزال تتعامل مع الملف من زاوية مذهبية، وتمسكها بعنوان رحيل الاسد، ليس الا شماعة لمشروعها السياسي المتمثل بتسليم «السنة» مقاليد الحكم في سوريا. هذا الامر لن يقابل الا بالمزيد من التشدد من قبل الطرف الاخر، ولان النوايا مفضوحة وغير «مبيتة»، لا تحتاج الاطراف الى ساحة لإثبات حسن النوايا. عنوان الرئاسة اللبنانية بات جزءا من معادلة الربح والخسارة، ولان كلا الطرفين يظنان بامكانية تحسين ظروفه الاقليمية، لن يقدما اي تنازلات تؤدي الى تسوية تفضي الى انتخاب رئيس لبناني دون «نكهة». لبنان بعد ان جعلت منه «حارة حريك» لاعبا مؤثرا في المنطقة، لم يعد مجرد ساحة اختبار للنوايا، بل جزء من المواجهة المفتوحة لرسم معالم الشرق الاوسط الجديد. اما «البكائيات» والاصرار على ضرورة «النأي» بالنفس، فكلام خارج التاريخ ويتعارض مع سياق احداث ستغير خرائط المنطقة، واكبر الخاسرين من يصر على البقاء «ورقة» على «الطاولة» فيما يقدم له حزب الله فرصة تاريخية ليكون لاعبا مقررا فوق «الطاولة».