لم يتخلَّ المغتربون اللبنانيون عن بلدهم الأمّ حتى في عزّ مآسي الحرب الأهلية، ما يعني أنّ تدفّقهم إلى لبنان هذا الصيف لا يُعتبَر مؤشّراً سياسياً، لا بل على العكس. فانقطاع الوافدين العرب عن قضاء فصل الصيف في لبنان، على رغم أنّه يُمثّل الخيار الأحبّ على قلوبهم، إنّما هو المؤشّر السياسي الواضح بأنّنا لا نزال في قلبِ البركان الإقليمي، وأنّ الوضع اللبناني لا يزال صعباً.
لذلك وضَع المتخصّصون في شؤون «حزب الله» الخطابَ الأخير للسيّد حسن نصرالله في الإطار الهجومي لا التراجعي أو الدفاعي.
فبَعد أسبوع من الآن، أي يوم الاثنين المقبل، ستجلس السفيرة الأميركية الجديدة في مكتبها في عوكر، بعد أن تكون قد وصَلت في عطلة نهاية الأسبوع المقبل، وتضع أمامها قراءة المتخصّصين للرسائل التي أدرَجها نصرالله في خطابه. فلم يعُد سرّاً أنّ المهمّة الأساسية للسفيرة الجديدة تبقى متابعة «حزب الله» وسُبل تجفيف مصادر تمويله.
وفي خطاب الأمين العام لـ«حزب الله»، وهو الكلام الأوّل له بعد انفجار مصرف «لبنان والمهجر»، التزام «حزب الله» بالاستقرار الأمني مع تعمّدِه بعدم التطرّق إلى الانفجار بحدّ ذاته، ولهذا قراءته البليغة. وأرفقَ ذلك برسالة اقوى تحدّث فيها للمرّة الأولى عن كيفية تمويل الحزب: إنّها إيران، اذهبوا إليها إذا كنتم جادّين في التفسير التقني لوقفِ التمويل عن «حزب الله».
إنّها إيران التي تتسابقون على عقود الاستثمار معها، والتي وقّعتم عقدين كبيرين معها أخيراً حول شراء طائرات «بوينغ» و«إيرباص». وهو قال إنّه لا مشكلة ماليّة لدى «حزب الله» ولن يكون إذا كان هذا المقصود.
لكنّه ضمناً أراد أن يحمي البيئة الحاضنة للحزب وطبقة رجال الأعمال الذين باتوا يخشون على استثماراتهم، وهي النقطة التي تدفع الحزب للوجع.
هو وجَّه الإشارتين، لإدراكه أنّ الجولة الأولى هي التي انتهت، ولكن هناك جولات أخرى لدى الوصول إلى منعطفات صعبة في سوريا ولبنان.
وفي الرسائل أيضاً عدم اعتراف الحزب وخلفه إيران ودمشق بوجود خطوط حمر في حلب. تحدّث عن مواصلة القتال لا بل تصعيده، واعتباره معركة استرجاع حلب بمثابة الهدف المصيري الذي يكاد يوازي دمشق، لا بل كلّ الصراع الحاصل في سوريا.
وبالفعل، أشارت تقارير لديبلوماسيين غربيين إلى أنّ «حزب الله» يستكمل استعداداته الميدانية في هذا المجال، وأنّ مجموعات قتالية جديدة ومجهّزة بأسلحة نوعية دخلت الأراضي السورية في طريقها إلى حلب.
وقد يكون ذلك متماشياً مع الإخفاقات الحاصلة إقليمياً:
– عدم حصول تقدّم في المفاوضات حول اليمن حتى الساعة.
– عدم تحقيق تقدّم في المفاوضات الدائرة بين حركتَي «فتح» و«حماس».
– خيبة الأمل التركيّة من أوروبا، ما يدفعها أكثر للاندفاع في سوريا.
– وإقرار الفريق الديبلوماسي المحيط بالرئيس الاميركي باراك اوباما بأنّ الانتصار المطلوب على «داعش» لا تزال دونه عقبات.
لكنَّ الفريقَ نفسَه يؤكّد التصميم على تسجيل انتصار واضح على «داعش»، عسكري واستراتيجي وأيديولوجي، وهذه العبارة تُستعمل للمرة الأولى، ولها ترجمتُها من دون شكّ.
لكنّ الطابع الهجومي لخطاب نصرالله لا يقتصر على هذه الناحية، بل يُطاول سلوكه السياسي الداخلي مؤشّراً لدخول معركة جديدة.
في خطابه تحدّثَ عن ضرورة حصول الانتخابات النيابية وفقَ قانون جديد، ولكن إذا وصلنا إلى المدة المحددة فلتحصل الانتخابات على أساس القانون المعمول به حالياً.
المتخصّصون في ملف «حزب الله» يعتقدون أنّ كلام نصرالله هنا، ديبلوماسي ولا يعكس حقيقة الموقف.
خلال الأسابيع القليلة الماضية ظهرَ جديد حول ملفّ رئاسة الجمهورية لم يأخذ الاهتمام الوافي في النقاش السياسي. ظهرَ موضوع السلّة كمتمّم إلزامي لانتخاب رئيس للجمهورية، ولو على لسان رئيس مجلس النواب نبيه برّي.
في السابق كان موقف «حزب الله» أنّه مع وصول العماد ميشال عون من دون أيّ إضافة، أمّا اليوم فبدت إلزامية تحقيق السلة إلى جانب الاتفاق مع عون.
منذ نحو السنتين وخلال لقائه بالسيّد نصرالله، سأله العماد عون عن وصول الرئيس سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة في حال الاتّفاق عليه (أي على عون) رئيساً للجمهورية. وكان جواب الأمين العام لـ«حزب الله»: لا مانع مبدئياً، ووفقَ هذه الحالة فقط، ولكنّ ذلك يحتاج للنقاش الوافي عندما نصل إليها. وكان واضحاً أنّ نصرالله أعطى عون موافقةً ولكن مشروطة.
وفي إطار النقاط التي وضِعت في شكلِ سلّة، بند أوّلي لا مجال للمساومة حوله، فيما الباقي قابل للتفاوض، وهو: قانون جديد للانتخابات.
في إحدى جلسات الحوار بين «حزب الله» وتيار «المستقبل» قبَيل الانتخابات البلدية، قال أحد أعضاء «المستقبل» لوفد «حزب الله»: لا مجال للقفز فوق القانون الحالي للانتخابات. فكما أنّ سلاحكم يُعتبَر من المحرّمات بالنسبة إليكم، فإنّ قانون الستّين يعتبَر من المحرّمات بالنسبة إلينا.
لكنّ «حزب الله» لمَسَ تبدّلاً بعد الانتخابات البلدية. وفي أيّ حال، فإنّ «حزب الله» الذي سيباشر سلوكاً سياسياً هجومياً بخلاف السلوك الذي انتهجه منذ اندلاع الحرب في سوريا، سيُبدي تمسّكاً حازماً بضرورة تغيير القانون الحالي.
لدرجة أنّ هناك من همسَ في أذن سفير أوروبّي بارز بأنّه إذا اعتمد البعض سياسة التسويف وعلكِ الوقت للوصول إلى أيّار المقبل وجعلَ الانتخابات حتمية حسب القانون الحالي، فإنّ «حزب الله» سيعارض ذلك وسيَطلب تأجيلاً تقنياً لمدة ستة أشهر، تجَدَّد في كلّ مرّة حتى الوصول إلى قانون جديد يعتمد النسبية.
وحسب هذا السفير الأوروبّي، فإنّ «حزب الله» قرّر، على ما يبدو، الدخولَ في مشروع إنتاج طبقة سياسية جديدة تجعله يدخل إلى ورشة داخلية جديدة، ولكن من ضمن الأطر والمسالك الدستورية والشرعية.